السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إلى الدكتور أحمد الفرجابي:
كما تعلمون لدينا في مجتمعنا طقوس خاصة بالعزاء، فمن الأمور المعتادة عندنا -على سبيل المثال- إقامة الصدقة (أو وليمة الطعام) التي يقيمها أهل الميت.
في أحيان كثيرة، يكون العزاء في إحدى القرى البعيدة لأقارب لنا، فنكون مضطرين للمكوث والمبيت معهم طوال أيام العزاء، ونأكل ونشرب مما يقدمه أهل الميت من وجبات ومشروبات، كالشاي والقهوة، ولا بد لنا من الجلوس في سرادق العزاء (أو خيمة العزاء)، وفي مرات كثيرة، أقوم بتقديم الماء والشاي والقهوة للمعزين.
عندما يكون شخص مغتربا خارج وطنه، فإنه يقوم بتعزية أهل الميت هاتفيا، وعندما يعود من اغترابه، يذهب لتعزية أهل الميت مرة أخرى، ولا أعلم إن كان هذا التصرف صحيحا أم لا!
في الحي الذي أقطن به، أقوم بتقديم العزاء واتباع الجنازة إلى المقابر، وأنتظر حتى يتم الدفن، وعندما أعود من المقابر لا أذهب إلى العزاء مرة أخرى، وكما تعلمون يقوم أهل الميت بنصب سرادق العزاء (أو ما نسميه بالصوان) وينتظرون المعزين، ويستمر العزاء لمدة يوم أو يومين، ويختتمونه بالصدقة التي يقيمها أهل الميت.
أصبحت لا أذهب إلى أهل العزاء ولا أساعد في نصب سرادق العزاء، ولكني أحيانا أضطر للجلوس في العزاء إذا كان الميت من الجيران، وينظر إلي الناس في الحي على أنني لا أجامل ولا أتكاتف مع أهل الحي، ولا أذهب للآخرين، وهذه النظرة والانطباع السيئ عني يؤثران علي كثيرا، وأظلم من قبل الآخرين بالغيبة والكلام السيئ عني.
ينظر الآخرون للأمر من زاوية ماذا سيقول عنهم الناس (أهل الحي)، ولذلك يذهبون إلى مكان العزاء، وفي مكان العزاء تجد أهل الحي يجلسون في الخيم المنصوبة في مجموعات، كأنهم في مقهى؛ كل مع رفاقه وأصدقائه، ويتحدثون في السياسة والرياضة، بل ويتضاحكون بصوت عال ويغتابون الآخرين، أما أنا فأنظر إلى الأمر من ناحية دينية ولا أهتم برأي الناس.
أريد رأيكم في هذا الأمر من الناحية الشرعية.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حسن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -أيها الأخ الكريم، والابن الفاضل- في الموقع، ونشكر لك الاهتمام والحرص على تطبيق السنة، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يلهمنا السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه.
رغم التواصل الاجتماعي الجميل الموجود في بلدنا السودان وعند أهلنا، إلا أنه أحيانا يزداد عن حده فينقلب إلى ضده، وما أشرت إليه من التجاوزات والمبالغات في موضوع العزاء من الأمور التي تحتاج إلى وقفات، والتعزية ما شرعت إلا لمواساة أهل الميت، والمواساة تتحقق بتعزيتهم، وجبر خاطرهم، ومساعدتهم، والأصل ألا يجلس الناس للطعام والشراب، ولكن لا مانع من أن يؤتى بطعام، فقد كان يؤمر أن يصنع لأهل الميت طعاما، كما قال ﷺ: اصنعوا لأهل جعفر طعاما، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم (رواه الترمذي)، وقال الترمذي: "وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت شيء لشغلهم بالمصيبة، وهو قول الشافعي".
فمن الناحية الشرعية: الآخرون (الجيران، الأصدقاء) هم الذين يأتون بالطعام، والطعام ليس لأهل المكان، وإنما لمن يأتي من مدينة أخرى، ولأهل البيت الذين ربما شغلهم هول المصيبة عن أن يعدوا طعاما أو شرابا، أما أن يتوسع أهل الميت في طبخ الأطعمة الفاخرة وتقديمها للناس -وكثيرا ما يكون هذا من حقوق الأيتام- فإن هذا فيه إشكالات خطيرة وكبيرة من الناحية الشرعية.
وهذه العادة موجودة بمستويات مختلفة في بلاد كثيرة، إلا أن بعض البلاد الطعام يأتي من الجيران ومن الآخرين، وهذا أهون؛ لأنه مع الجلوس الذي ليس له ما يسنده، أيضا تأتي مصيبة أكل أموال الأيتام، وإدخال أهل الميت في الديون؛ وكل ذلك من الأمور التي تحتاج منا إلى وقفات.
ونحن نشكر لك هذه المحاولات، ونرجو أن يزداد الوعي، ويزداد الذين يدركون أن هذه مخالفات شرعية، خاصة وأن الأمر يزداد سوءا إذا علمنا أن الناس عندما يجلسون قل أن يتذكروا الميت، فالكلام كما أشرت عن السياسة، وعن الرياضة، وعن الأسهم، وعن الكرة، وعن غيرها، يعني من هذه الأمور التي لا تقدم ولا تؤخر.
وبالتالي نحن بحاجة إلى تصويب هذا الترابط الاجتماعي ليكون فيما يرضي الله -تبارك وتعالى- وليكون في الحدود المعقولة، والذي يأتي من السفر والبعد لا مانع من أن يذهب، لكن لو قابلهم في أي مكان فإن هذا يكفي، فلو أنه جاء للمسجد مثلا، وكان هناك في خلال هذه السنة عشرة من المصلين فقدوا أحبابا لهم، وعزاهم في المسجد، لكان ذلك كافيا؛ أقصد في التعزية: أن الإنسان إذا قابل أخاه يعزيه، وإذا شيع الجنازة وكان في المقبرة، عند ذلك يعزي، أما أن يأتي الناس ليجلسوا لأيام طالت أو قصرت؛ فإن هذا ليس له ما يسنده من الناحية الشرعية.
ولعل بعض الناس بدأ يشعر بالضغط الاقتصادي والتكاليف الباهظة، فبعد أن كانوا يجلسون أياما كثيرة، بدأت الأيام تختصر إلى يوم، بل إلى ساعات أحيانا.
وعلى كل حال، فإن التخفيف في هذا الميدان مطلوب، ورعاية السنة أيضا من المقاصد الشرعية التي لا بد أن يكون هناك اهتمام بها، ودور العقلاء من أمثالك كبير، وما تقوم به عمل صحيح.
ولا مانع من أن يعوض الإنسان تواصله مع الناس، ومساعدته للناس في احتياجاتهم الأخرى، في أفراحهم، في مواطن أخرى، عندما يحتاج، لا يقصر في المساعدة، ولكن في هذا الأمر، الصواب أن يعود الناس إلى هدي النبي ﷺ، فإذا اضطر أهل الميت إلى طعام، فليصنع لهم من الجيران أو من الآخرين، أما أن يجلس الناس لطعام فاخر ويتكلف به أهل الميت، فتلك مصيبة أخرى تنضم إلى المصيبة التي يعاني منها الميت.
نسأل الله أن يردنا إلى كتابه وإلى هدي نبيه ردا جميلا، وأن يلهمنا السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه.