التفكير السوداوي والبكاء باستمرار: هل يدل على حالة اكتئاب؟

0 0

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا مغتربة لبنانية في بلد خليجي، من عائلة مكونة من 8 أشخاص، وأعاني في هذه الفترة من بكاء مستمر، ولم أستطع تحديد سببه الحقيقي، ودعوت الله كثيرا، لكن ذنوبي كثيرة وأحاول التوبة منها، وأنا خاتمة للقرآن منذ أكثر من 5 سنوات، ولكنني أتكاسل عن المراجعة.

كانت لدي صديقة واحدة طوال رحلتي الدراسية، ولكن مع كثرة غيابي عن المدرسة بسبب سفرنا المتكرر لمرض جدي، ملت صديقتي مني وتركتني بعد صداقة دامت 11 سنة، والآن أنا في آخر سنة، ولا أرغب في التخرج أصلا لأنني ليس لدي من أتخرج معه!

أدرس في المسار الشرعي منذ سنتين، وهذه سنتي الأخيرة، لكني لم أستطع أن أنسجم مع بنات صفي أبدا، هم لم يقوموا بشيء، ولم يقولوا شيئا، ولكنني فقدت مهارات التواصل والذكاء العاطفي بعد جائحة كورونا، وأعاني الآن من وحدة شديدة.

أدخل المدرسة ولا أتحدث مع أحد حتى أعود إلى المنزل، وأحاول أن أتشجع وأندمج معهم، لكنني مبتلاة بسوء الظن، وأفسر كل النظرات والكلام بطريقة خاطئة، وقد أثبت لنفسي ذلك أكثر من مرة، ومع ذلك لم أتشجع.

منذ 3 أيام وأنا أبكي باستمرار، وأمي تخبرني أن ذلك بسبب الوحدة، وأن علي أن أتشجع وأكون صداقات.

لدي عدة احتمالات: ربما أننا كأسرة مصابون بالعين أو الحسد؛ لأننا رأينا علامات في المنام وغيرها، لذا كثر بكائي، أو أنني أبكي بسبب إدماني على الجوال، إذ أنني في هذه الفترة أجلس على الهاتف ما بين 7 إلى 11 ساعة يوميا، ويمكن أن يكون هذا عقابا من الله تعالى لبعدي عنه.

البارحة كنت في حالة اكتئاب شديد، وعندما أكتئب أفكر بكل شيء سوداوي في الحياة، بأن أهلي سيموتون وسأبقى وحيدة وليس لدي أصدقاء.

أصرت أمي على أن تسجلنا في حلقات تحفيظ، وبمجرد أن دخلنا وتحدثنا مع الناس هناك ارتحت كثيرا، وأحببت أن أحضر كل يوم.

عندما أعود إلى طبيعتي ولا أشعر بالحزن لا يهمني إن فكرت أن أهلي سيموتون، ولكني أدعو الله لهم دائما بطول العمر، وأن لا يردوا إلى أرذل العمر، وأحس أنهم سيذهبون إلى مكان أفضل.

لكن حينما أبكي لا يمكنني تحمل فكرة فراقهم أبدا، مع أنني الآن أعيش معهم وأنا سعيدة، وأهلي يحبونني وأنا أحبهم، وقد لاحظ كل من حولي أنني أكفر بالنعمة، وأنا لا أشعر بذلك. أنا أكثر من قراءة الروايات، خاصة الروايات العاطفية، وأدعو الله أن يعينني على تركها.

نهاية هذا الأسبوع سنسافر إلى بلدنا لأن جدي مريض، ولكن كلما سافرنا نتشاجر، أو نبكي ونكتئب، وأخاف أن أسافر وأعود لحالة الاكتئاب.

لدي هدف بأن أحيي الأمة فعلا.

أرجو مساعدتي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ... حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نشكركم على تواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا.

أولا: أود أن أحييك على شجاعتك في كتابة رسالتك المعبرة، والتي لفتت انتباهي إلى قلب مؤمن وعقل واع يحمل هدفا نبيلا؛ ألا وهو إحياء الأمة، وهذا بحد ذاته نعمة عظيمة، وقوة يجب أن تستثمريها.

ثانيا: أتفهم تماما مدى صعوبة مزيج المشاعر الذي تمرين به، من البكاء المستمر غير المبرر، والشعور بالوحدة القاسية في بيئة الدراسة، إلى سوء الظن الذي يعيق التواصل، والقلق الوجودي حول فراق الأهل، والإحساس بفقدان مهارات التواصل بعد كورونا.

كل هذه الأحاسيس طبيعية جدا في خضم التغيرات الحياتية والروحانية، خاصة مع ضغوط الدراسة والاغتراب العائلي وسفركم المتكرر لمرض الجد -شفاه الله وعافاه-.

ثالثا: يمكن أن ننظر إلى حالتك هذه من زاوية إيمانية ونفسية معا، فنرى أن ما يحدث هو تفاعل بين عدة أمور:
• ما ذكرته عن الكسل عن مراجعة القرآن بعد ختمه، وشعورك بـكثرة الذنوب، ومحاولاتك للتوبة، وإدمان الجوال والروايات العاطفية، كل هذا يشير إلى صراع داخلي نبيل.

• تذكري أن القرآن هو حبل الله المتين، ونور يملأ القلب طمأنينة، وهو خير بديل عن الانغماس في الروايات العاطفية والتعلق بها، وهو الجليس والأنيس الجميل الذي يغنيك عن الانشغال المفرط بالهاتف ووسائل اللهو، وقد قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}، وقال فيه الإمام الشاطبي:
‌وخير ‌جليس ‌لا ‌يمل ‌حديثه *** وترداده يزداد فيه تجملا

• الكسل عن المراجعة هو مدخل للشيطان ليفقدك السكينة، ويصرفك عن مصدر طمأنينتك وثباتك، فاستحضري دائما أثر المداومة، واجعلي لنفسك وردا ثابتا، فإن النفس إذا اعتادت القرب من كلام الله أشرقت، وإذا أهملت ضعفت، والقلوب لا تستقيم إلا بذكر ربها.

• شعورك بأن البكاء قد يكون عقابا من الله هو في الحقيقة وسوسة من الشيطان؛ فالله أرحم بنا من أمهاتنا، ولعل هذا البكاء الشديد هو كفارة، وتنقية للقلب، ودعوة منك نفسك للعودة الصادقة، وهو جزء من الابتلاء الذي يرفع الدرجات، وكما قال النبي ﷺ: ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه.

• لقد وجدت الراحة في حلقات التحفيظ، وهذا دليل قاطع على أن الحل الجذري يكمن في وصل قلبك بمعين الأنس بالله، فكلما ازددت قربا من كتابه ازددت طمأنينة، وتبدد عنك القلق والاضطراب، وانشرح صدرك لما ينفعك، فالقلوب إن لم تتعلق بربها تعلقت بما يرهقها، وإن وجدت سبيلها إلى القرآن استقامت واطمأنت.

• فقدان الصديقة بعد 11 سنة، والانتقال إلى المسار الشرعي دون انسجام، مع تدهور مهارات التواصل والذكاء العاطفي بسبب الجلوس على الجوال، كل هذا خلق لديك إحساسا عميقا بالوحدة القاتلة.

• تفسيرك للنظرات والكلام بطريقة خاطئة هو ما يسمى في علم النفس تشوهات معرفية أو تحيز سلبي، إن سوء الظن بالناس يقطع حبل الود، تذكري قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم}، وهذا الإثم لا يضر الآخرين بقدر ما يضر طمأنينتك الداخلية.

• فقدان الصديقة، قد تكون هذه الحادثة هي الجرح العميق الذي جدد آلامه الانتقال وعدم الانسجام الحالي. لكن الحياة لا تتوقف على شخص واحد.

• الخوف من موت الأهل والشعور بأنك ستبقين وحيدة هو قلق طبيعي، لكنه يشتد ويصبح مؤلما في حالة الاكتئاب أو الحزن الشديد، هذه هي سنة الحياة، ولا يمكن تحمل الفكرة إلا بالتوكل الكامل. تذكري أن الموت ليس فناء، بل انتقال إلى رحمة الله، وأن برك بهم في حياتهم وبعد مماتهم هو الذي سيبقى لك، كما قيل:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها *** تنال إلا على جسر من التعب

• اجعلي نيتك من المراجعة هي السكينة وإحياء الأمة، واستمري على هذا العزم، واعملي بخشوع، ولا تستهيني بأي جهد تبذلينه، فكل مراجعة صادقة تزيد قلبك صفاء وروحك قوة، وتكون لك ذخرا في الدنيا والآخرة.

• خصصي 20 دقيقة يوميا للمراجعة، ولا تجبري نفسك على مراجعة ما لا تحبين، بل ركزي على ما يسعدك مراجعته، وحاولي ربطها بالصلاة، مثلا: ربع ساعة قبل صلاة الفجر، لتكون لحظة روحانية تزيد قلبك خشوعا وتركيزا.

• إن اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء، والتوكل عليه ومناجاته أمر لا بد منه في مثل هذه الأحوال، فأكثروا من الذكر، فإن في ذكر الله تعالى تطمئن القلوب، خاصة قول: يا ‌حي ‌يا ‌قيوم ‌برحمتك ‌أستغيث‌، أصلح ‌لي ‌شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

• عليك بـخفض ساعات استخدام الجوال فورا، اجعلي الحد الأقصى ساعتين موزعة، الإفراط في الروايات العاطفية يضع القلب في حالة تخيل لا واقع، مما يزيد من الوحدة والاكتئاب عند العودة للحياة الحقيقية، استبدليها بقراءة كتب تطوير الذات من منظور إسلامي أو قصص الصحابيات لتقوية هدفك النبيل.

• لا بد أن نذكرك بحديث النبي ﷺ: عجبا ‌لأمر ‌المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.

• خوفك الشديد على الأهل ما هو إلا دليل على حبك، فاجعلي هذا الحب دافعا لبرهم، واعلمي أن الأعمار بيد الله، ولن ينفعنا إلا الاستعداد ليوم الرحيل.

• عندما تأتيك فكرة سلبية (مثل: نظراتهن تعني أنهن لا يردنني)؛ أوقفيها فورا واستبدليها بنظرة محايدة (مثل: لا يمكنني أن أجزم بما يفكرن، ربما كن يفكرن في شيء آخر).

• جربي مرة واحدة في الأسبوع أن تبادري أنت بالكلام: سؤال بسيط عن الدراسة أو مساعدة زميلة، والبداية بخطوات صغيرة هي سر النجاح.

• بيئة حلقات التحفيظ بيئة إيجابية على الصعيد الإيماني والاجتماعي، وهي نعمة وهبك الله إياها، فاحرصي على حضورك اليومي، واجعلي هدفك أن تتواصلي مع أخت واحدة على الأقل في كل مرة، ليس بالضرورة لتكون صديقتك المقربة، بل لتعزيز مهارة التواصل وبناء علاقات صحية تدريجيا.

• لفت انتباهنا قولك: "كلما سافرنا نتشاجر أو نبكي ونكتئب"، وعليه، فكري في الأمر هكذا: اعتبري هذا الوقت فرصة لخدمة جدك، واجعلي هدف رحلتك هو نيل أجر بره وإسعاده، فتركيزك على الخير يخفف المشكلات ويحول المواقف الصعبة إلى لحظات مباركة.

• نحن موجودون لتحقيق الاستخلاف لا للعيش مع أشخاص معينين أو في مكان معين، فاجعلي سفرك مع أهلك وسيلة لزيادة رصيد برك بهم، وقبل السفر ضعي نية الدعاء بأن ييسر الله أمركم، وأن يزيل عنكم الغم.

• البكاء المستمر لثلاثة أيام متتالية، والحالة السوداوية عند الاكتئاب، والتفكير المتكرر بفقدان الأهل بطريقة مؤلمة، قد يكونان علامات على حالة من تقلب المزاج أو الحزن العميق.

• لا نريد أن نسقط في فخ الإسقاطات التشخيصية، ولكن للأمانة والموضوعية، ننصح بشدة باستشارة أخصائي نفسي مؤهل (أونلاين إن أمكن) لتقييم حالتك بشكل دقيق، فطلب المساعدة ليس ضعفا، بل قوة، ولا يتعارض أبدا مع العلاج الإيماني، بل يكمله.

نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحيي قلبك بنور الإيمان، وأن يملأه بالسكينة والأنس به، وأن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يهديك سواء السبيل، وأن يرزقك الصحبة الصالحة التي تعينك على هدفك النبيل (إحياء الأمة)، وتذكري: {‌لا ‌تدري ‌لعل ‌الله ‌يحدث بعد ذلك أمرا}.

بورك فيك، وفقك الله.

مواد ذات صلة

الاستشارات