والدي يتهمنا بالعقوق إذا عجزنا عن تلبية حاجاته، فما الحل؟

0 1

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا أعاني في علاقتي مع أبي، على الرغم من أنني كنت أكثر إخوتي برا، وإرضاء له؛ فقد كنت أساعده ماديا عندما يحتاج؛ بحكم أنه عاطل منذ سنوات، ويرفض العمل إلا في وظائف "ترقى لمقامه"، تاركا نفقة الأسرة والبيت لأمي ولي على أنه دين سيرده لنا، وهذا الكلام منذ سنوات، ولا زال يرفض العمل ذا الدخل الثابت، ويتاجر في المسابح التي هي أصلا هوايته منذ أن كان بعمر صغير، ولا تدخل له مبلغا في أغلب الأحيان.

بدأت مشكلتي عندما طلب مني دفع إيجار شقتهم كاملا، وأخبرته بأني لا أستطيع؛ لأني بحاجة إلى سيارة، فغضب مني، وأصبح لا يكلمني، ويعاملني معاملة الغريب، وقد تكرر هذا الوضع، سواء مع أخي الأصغر سنا مني، أو حتى مع إخوته وأمه، وينسى كل المرات التي ساعدناه فيها، ويرى بأننا عاقون إذا فشلنا في تلبية احتياجاته مرة واحدة.

لقد شجعتني أمي على الرفض، ظنا منها أنه عندما يحس بالضغط سوف يقوم بواجبه، ويوفر نفقة البيت على الأقل، أو يجد وظيفة، وفعلا لقد وفر مبلغ الإيجار، ولكن منذ ذلك الوقت لم نتكلم مع بعضنا، وعند زيارتي لبيت أهلي فإن التواصل بيننا لا يتعدى السلام، وتقبيل اليد والرأس.

الآن أمي غاضبة مني لأني انشغلت عن الاتصال بها بسبب ضغط العمل في الأسبوع الماضي، ولم يكن عندها من تفرغ حزنها عليه إلا أبي؛ حيث وجدها فرصة ليتكلم معي بفظاظة، ويقول لي: "ما تفعله في والديك ستراه في الدنيا قبل الآخرة"، فرددت عليه برسالة، ومن بعدها قام بحجبي من التطبيق.

عندما يسألني ربي سبحانه وتعالى عن والدي، وهو يعلم بأني حاولت أن أبرهما وأساعدهما بما استطعت، أنا لا أنتظر التقدير، ولا أحزن عندما أعامل بشكل غير عادل، وأنا أعمل في وظيفتين بسبب عدم وجود مصدر أمان في حياتي فيما إذا فشلت، ولم أستطع الاتصال بهما بسبب انشغالي.

ربي سيعذرني لأنه يعلم بأني أبذل قصارى جهدي لأوفر المال لنفسي ولأهلي من بعدي، وعندما أعجز عن مساعدتهما فإن ذلك يكون بسبب الظروف، أو بسبب حاجة، فيكون غضبهما علي بغير حق.

سأظل أبرهما وإن غضبا علي؛ لأن الله أمر بذلك، ولأني أحبهما رغم كل شيء، ولكني تضررت نفسيا من أبي، لدرجة أنني أصبت بنوبات الهلع المتكررة، ولا أعلم ما الذي يجب علي فعله؟ وكيف أتعامل مع أبي في هذه الحالة؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ قصي حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبا بك -أخي الفاضل- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى.

بداية نسأل الله أن يكتب لك أجر برك بوالديك، وأن يرزقك الصبر، وحسن الإحسان إليهما؛ فبر الوالدين من أعظم الطاعات والقربات، قال الله تعالى: ﴿وقضىٰ ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾، كما أن العقوق من أكبر الكبائر التي تمحق الخير والعمل.

أنت تعيش بين رغبة صادقة في البر، وبين ضغوط الواقع المعيشي، وبين توقعات والديك، وهذا التداخل أثقل عليك حتى بلغ حد القلق، ونوبات الهلع، وحتى نساعدك على تجاوز ما تعانيه، سنضع بين يديك بعض النصائح التي نسأل الله أن يوفقك للعمل بها:

أولا: فهم طباع الوالدين، ودوافعهما؛ فمن المهم أن تفهم شخصية والديك ودوافعها فهما جيدا؛ فالإدراك الواعي لطبيعة الوالد في هذه المرحلة يعد نصف العلاج؛ فعندما يتقدم الإنسان في العمر، وتقل أدواره الاجتماعية، أو يفقد عمله، ربما يشعر بنقص في قيمته، فيحاول التعويض بفرض السيطرة، أو الإكثار من الطلبات المادية؛ ليشعر بأنه ما زال صاحب أمر، ونهي، وكلمة، وهذا يفسر بعض الاستشهادات التي يستدل بها عند شعوره بالتجاهل، أو عدم البر، والتي تكون غالبا بهذا القصد، لذلك خص مرحلة الكبر دون غيرها فقال تعالى: ﴿إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما﴾؛ لأنها السن التي تتضاعف فيها الحاجة، وتزداد فيها الطلبات، وتحتاج إلى فهم ولطف، وهنا يظهر معنى البر الحقيقي بالصبر، والتفهم، واحتساب الأجر والثواب من الله تعالى.

ثانيا: معرفة الحدود الشرعية، وضوابط البر: يجب أن تدرك ميزان الشرع الحكيم العادل حتى تطمئن نفسك، ويزول شعورك بالذنب، فالبر واجب، لكنه مرتبط بالقدرة والاستطاعة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا طاعة فيما يعود عليك بفساد أو ضرر بالغ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف، فإذا كان طلب الوالد يفوق طاقتك المالية، أو يترتب عليه ضياع مستقبلك الوظيفي، أو الديني، فامتناعك ليس عقوقا، بل حفظا للنفس التي أمر الشرع بصيانتها، بشرط أن يكون الرفض مصحوبا باللطف، والمحافظة على البر والإحسان دون غلظة أو شدة، مع الحرص على التفسير المقنع لهما؛ فدوام الود والإحسان ينبغي الحرص عليه في كل حال.

ثالثا: الحوار الهادئ والصريح: بأن تختار وقتا مناسبا للجلوس مع والديك، وكن رفيقا في عرض ما تعانيه، واشرح لهما ظروفك ومخاوفك بكل وضوح وصدق؛ فقد يجهلان حقيقة ما تمر به، أو لا يدركان حجم الضغوط التي تواجهك، فالمصارحة الهادئة تذيب كثيرا من سوء الفهم، ويبارك الله فيها ما دامت نيتك الإصلاح، قال تعالى: ﴿وقل لهما قولا كريما﴾، وهذا من القول الكريم.

رابعا: الاستعانة بمن يأنس الوالدان إليه: فإذا شعرت أن الحديث المباشر قد يزيد المشكلة، فاستعن بشخص مقرب منهما، وله مكانة في قلبيهما، ليشرح لهما وضعك؛ فقد يستطيع إيصال ما تعجز عن إيصاله بلطف وحكمة.

خامسا: لا تجعل المشكلة تسيطر على حياتك، واشغل نفسك بما ينفعك، ووازن بين واجباتك وقدراتك، ولا تسمح للضغوط بأن تستحوذ على يومك، نم مهاراتك، وارتق بعملك، وأكثر من الطاعات؛ فهي باب واسع للطمأنينة؛ قال تعالى: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾، فإذا كنت تبذل ما تستطيع دون تقصير فاطمئن؛ فالله لا يضيع أجر المحسنين.

أخيرا -أخي الكريم- أنت على خير عظيم ما دام قصدك البر والإحسان؛ فالله مطلع على ما في قلبك، وما تريد، وما نيتك في كل فعل أو قول، قال تعالى: (ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا)، لذلك استمر في برك بوالديك، واجتهد في طاعتهما ما قدرت على ذلك، واجتهد في تطبيق ما ذكرناه لك من نصائح؛ لإزالة ما في الصدور من سوء فهم.

ثم اجتهد في طاعة ربك، واحمد الله على أن فتح لك هذا الباب العظيم المؤدي إلى الجنة، واجعل قصدك وجه الله تعالى ورضاه، وكن دائم الرجاء في وعده؛ فإن بر الوالدين من الأعمال التي يعجل الله لصاحبها الخير في الدنيا قبل الآخرة.

نسأل الله أن يشرح صدرك، وييسر أمرك، وأن يجعلك من البارين السعداء.

مواد ذات صلة

الاستشارات