السؤال
السلام عليكم
أنا طالب في كلية طب الأسنان، سنة أولى، وفي الأسبوع الأول من الدراسة، منذ اليوم الأول بدأت أشعر بضيق في الصدر، وحتى أثناء حضور المحاضرات ينتابني شعور شديد بالضيق والرغبة في البكاء، لقد وضعت طب الأسنان ضمن خيارات المفاضلة وأنا متردد، وعندما بدأت الدوام أصبحت أكره هذا التخصص، وكل ما يتعلق به.
أفكر كثيرا في أمور عديدة: ماذا لو غيرت التخصص؟ ماذا لو كان التخصص الآخر أصعب، أو ندمت لاحقا؟ أكثر ما يزعجني هو فكرة السنوات الطويلة، أو أن أعيد مادة، أو أتأخر عن زملائي، وهذا يجعلني أفكر باستمرار، أنا لست ميسور الحال، وحتى الآن لا أستطيع شراء بعض المستلزمات بسبب ضيق القدرة المادية، كما أنني خائف من تكاليف طب الأسنان الباهظة.
خرجت إلى لبنان سنة 2013 بعد استشهاد والدي، ودرست هناك، كنت أعاني منذ الصغر من الحاجة لوجود أحد من عائلتي معي، وقد ساعدتني معلمة بتوجيهي لفترة، لكن عندما بدأت العمل في عمر 14 عاما، كنت أداوم أسبوعا، ثم أبكي؛ لأنني أريد أحدا من عائلتي معي، وبقيت على هذا الحال، في الصف الحادي عشر، قبل الشهادة، كان ابن عمي يدرس معي، وفجأة قرر ترك الدراسة بسبب الصعوبة وضعف العلامات، وعندما سمعت ذلك بكيت كثيرا، وفكرت أنني لا أريد أن أرسب أيضا، لكن الأمور انحلت و-الحمد لله-، وأكملنا الدراسة ونجحنا، ثم دخلنا المعهد ونجحنا أيضا، ونلنا الشهادة.
بعد تحرير سوريا قررنا العودة للدراسة هناك بسبب التكاليف الباهظة في لبنان سواء في المعيشة أو الجامعات، عدنا إلى سوريا قبل شهرين، وسجلنا في المفاضلة التي تصدرها الوزارة؛ حيث يضع الطالب رغباته، وتقبل واحدة بحسب المعدل، وقد قبلت في طب الأسنان رغم أنني كنت مترددا جدا في وضعها، بينما قبل ابن عمي في جامعة دمشق تخصص الأطراف الصناعية.
أنا لا أعرف ما الذي يصيبني، أفكر كثيرا، وكلما تذكرت سنوات الدراسة الخمس في طب الأسنان والامتحانات والصعوبات يزداد ضيقي، كنت أرغب في تخصص الكمبيوتر مثل أخي الأكبر، لكنني خائف من الرياضيات والفيزياء؛ لأنني لست متمكنا منهما جيدا بسبب نقص المنهج اللبناني.
أرجو مساعدتي، خاصة أن أهلي لن يرضوا بتغيير تخصصي؛ لأنهم يرون أن لقب "دكتور" شيء عظيم، وأنا الآن واقع بين نارين: نار التحمل مع عدم الرغبة، ونار الندم والتأخر.
والسلام عليكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ سائل حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكركم لتواصلكم معنا وثقتكم بموقعنا، ونقدر عاليا صراحتك في طرح ما يجول في خاطرك من مخاوف وهواجس.
فهمنا من رسالتك أخي الكريم حجم الضغط النفسي الذي تعيشه، وتلك الغربة المزدوجة التي تشعر بها؛ غربة المكان الجديد بعد العودة للوطن، وغربة الروح داخل تخصص لا تجد نفسك فيه، إضافة إلى فقدان السند العاطفي الذي كنت تستمده من وجود قريب أو رفيق بجانبك، ورحم الله والدك، وتقبله في الشهداء، فقد نشأت في ظروف صنعت منك رجلا يتحمل المسؤولية رغم صغر السن.
أولا: صدمة البداية، واضطراب التكيف الذي أصابك: من المهم جدا أن تدرك أن ما تشعر به الآن من ضيق شديد، ورغبة في البكاء هو رد فعل طبيعي لحدث كبير، أنت في الأسبوع الأول فقط، وقد اجتمعت عليك عدة تغييرات جذرية: الانتقال من لبنان إلى سوريا، الفراق الدراسي عن ابن عمك الذي كان يمثل منطقة الأمان لك، والرهبة من تخصص جديد صعب ومكلف.
في علم النفس، هذه المرحلة تسمى صدمة التكيف، وهي مرحلة ضبابية لا يصح فيها اتخاذ قرارات مصيرية فورية، مشاعرك الآن ملتهبة، والعقل تحت ضغط العاطفة لا يرى الأمور بوضوح.
ثانيا: لفت انتباهي بشدة تكرار نمط معين في حياتك: (المدرسة، العمل، الدراسة مع ابن العم)، دائما ما يرتبط شعورك بالأمان بوجود شخص مألوف بجانبك، وعند غيابه تشعر بالضياع والرغبة في البكاء.
أخي الفاضل: هذا النمط يشير إلى قلق الانفصال أو الاعتمادية، الله -عز وجل- يربينا أحيانا بالوحدة لنتعلم أن الأنس الحقيقي والأمان المطلق لا يكون إلا به سبحانه، أنت الآن في مرحلة انتقالية لتصبح طبيبا أو مهندسا، وهذا يتطلب بناء استقلال نفسي، ابن عمك في دمشق وأنت في مكان آخر؛ هذه رسالة لك بأن تبدأ رحلة الاعتماد على النفس مستعينا بالله، وأن تكون أنت السند لنفسك ولأهلك، خاصة وأنك فقدت الوالد مبكرا، فأنت الآن رجل البيت.
ثالثا: معضلة التخصص (طب الأسنان مقابل الحاسوب)، نحن أمام خيارين كلاهما له تحدياته، وعليك الموازنة بعقلانية لا بعاطفة الخوف فقط:
• بالنسبة لطب الأسنان هو تخصص مرموق، لكنه بالفعل مكلف ماديا، ويحتاج لمهارات يدوية وصبر، إذا كان العائق المادي حقيقيا، ويسبب لك ضغطا يوميا يفوق طاقتك؛ فهذا سبب وجيه لإعادة النظر؛ لأن الضغط المادي مع كره التخصص سيولد انفجارا نفسيا لاحقا.
• بالنسبة للحاسوب (الكمبيوتر) خوفك من الرياضيات والفيزياء؛ قد يكون وهما سببه ضعف التأسيس السابق، وليس ضعف قدراتك العقلية، الرياضيات والفيزياء مهارات يمكن اكتسابها بالدورات والاجتهاد، وهي أسهل في التدارك من دراسة 5 سنوات في تخصص (الأسنان) تكره تفاصيله الدقيقة والدموية.
رابعا: قولك الأهل لن يرضوا؛ لأن الدكتور شيء عظيم، هو فخ يقع فيه الكثيرون، تذكر أنك أنت من سيدرس، وأنت من سيعمل، وأنت من سيعاني، إرضاء الأهل غاية نبيلة، ولكن لا طاعة لمخلوق في تدمير نفسيتك، إذا استمر كرهك للتخصص، فإنك قد تتعثر لسنوات، وحينها لن ينفع اللقب الاجتماعي، الأهل غالبا يخشون على مستقبل ابنهم، فإذا أثبت لهم أنك ناجح ومبدع في مجال آخر (كالحاسوب)، سيطمئنون.
نصيحتنا العملية لك كالتالي:
١- لا تتخذ قرار الانسحاب اليوم، اعط نفسك مهلة محددة (مثلا شهرا واحدا أو الفصل الدراسي الأول)، خلال هذا الشهر، احضر المحاضرات بنية المستكشف لا بنية المتورط، قل لنفسك: أنا هنا لأجرب وأحكم بعقلانية، ولست مجبرا على البقاء للأبد، هذا التفكير سيخفف ضغط الصدر الضيق.
٢- أنت في حيرة، وما ندم من استشار، ولا خاب من استخار، صل صلاة الاستخارة بنية: يا رب، إن كان طب الأسنان خيرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فيسره لي وحببه إلي، وإن كان شرا لي فاصرفه عني؛ الاستخارة ستعطيك سكينة، وستلاحظ أن الأمور إما تتيسر، أو تتعسر بشكل يوجهك للقرار الصحيح، وردد دعاء النبي ﷺ: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل.
٣- بالنسبة لمخاوفك من الرياضيات في تخصص الحاسوب؛ تذكر أنك نجحت سابقا، وتجاوزت الصعاب في لبنان وسوريا.
نقص المنهج يمكن تعويضه عبر الإنترنت (يوتيوب مليء بالكورسات التأسيسية)، الخوف من المجهول (الرياضيات)، أهون من الخوف من المعلوم المكروه (طب الأسنان وتكاليفه).
٤- إذا انتهت المهلة (الشهر)، وما زلت تشعر بنفس النفور الشديد والضيق؛ هنا يجب أن تجلس مع أهلك جلسة هادئة.
اشرح لهم: يا أمي، أنا أحترم رغبتكم، لكن تكاليف طب الأسنان باهظة وتسبب لي هما، وطبيعة الدراسة لا تناسبني، وأخاف أن أضيع سنواتي في الرسوب، تخصص الحاسوب مجاله واسع ومطلوب عالميا، وسأبدع فيه، استخدام حجة التكلفة المادية وخوف الفشل غالبا ما يقنع الأهل؛ لأنهم لا يريدون لابنهم الخسارة.
ختاما: أخي الحبيب، تذكر قول الله تعالى: ﴿وعسىٰ أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ۖ وعسىٰ أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ۗ والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾.
أنت لست متأخرا، وأنت في مقتبل العمر، وسنة أو سنتان في مقياس العمر لا شيء مقابل أن تجد التخصص الذي تحيا به سعيدا ومبدعا.
استعن بالله، ولا تعجز، وابدأ ببناء علاقتك المباشرة مع الله لتكون ذخرك عند الشعور بالوحدة.
نسأل الله أن ييسر أمرك، ويختار لك الخير حيث كان، ويرضيك به، ويشرح صدرك للنور واليقين.