السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقدت أبي، أحب الأشخاص إلى قلبي وأغلى ما أملك، رغم تقصيري وعدم اهتمامي الكامل به في حياته وهو معنا.
كنت أشعر بالأمان لمجرد وجوده في حياتي، رغم أنني لم أزره كثيرا أو أتحدث معه يوميا أو أسبوعيا أو حتى شهريا، لكن كنت أزوره مرة كل أسبوع أو أسبوعين، ولم أجلس معه كثيرا لأن لدي أختا توأما قريبة مني لم تتزوج، ونحن متعلقتان ببعضن البعض، فكنت أجلس معها أكثر.
كنت أعتقد أن والدي موجود دائما وسأعوضه وقتا آخر، وكنت أعامله بكل حب، لكن الدنيا تمضي، ولم أشعر ولو لحظة واحدة أنه سيرحل ويتركني.
لم أكن قد قلت له كلاما كثيرا أو عبرت له عن حبي، وللأسف الشديد كانت آخر مكالمة بيني وبينه فيها سوء فهم؛ بسبب موضوع يخص أختي، فقال لي كلمة ضايقتني جدا، فأغلقت المكالمة على الفور ولم أنتظر كلمة أخرى قد توجعني.
وكانت والدتي قد فعلت الأمر نفسه معي قبل دقيقة من المكالمة، فشعرت بالضيق، وقلت بالتأكيد أن أبي قد غضب مني، لكن بعد يومين هدأت، وأخبرتني أختي أنه قال لها إنه يعرف أنه ضايقني، وفهمني خطأ، ويريد أن يصالحني، ففرحت جدا وانتظرته، وقالت لي إنه سيذهب للكشف بعد يومين، فانتظرته لكن لم أكلمه، لا أدري لماذا، كنت أظن أنه سيأتي ونصالح بعضنا وتكون الأمور أفضل.
ويوم الوفاة صباحا كنت سأذهب إليه لأراه وأتكلم معه وأصالحه بنفسي، وكنت سأوصل ابنتي إلى المدرسة ثم أذهب إليه، لا إلى أختي هذه المرة، ولكن أحدهم أوصلها، فنمت وقلت لنفسي: سأذهب ليلا أو غدا بعد الامتحان، ولكنني سمعت الخبر المفجع والمؤلم الذي لم أتوقعه أبدا: أنه توفي، لم أصدق بوفاته وقلت: هذا لم يحدث، أكيد هناك خطأ، مستحيل، ولكني رأيته بعيني، ولم يستيقظ مرة أخرى أبدا.
قلبي موجوع جدا على فراقه، ويتفطر من الداخل، ولا أشعر أن هناك شيئا في حياتي سيمضي، الدنيا توقفت، وأنا متعبة جدا، وأشعر بكل الأحاسيس مجتمعة: إنكار هذا الحدث، الوجع، الحزن، الخوف، التعب الدائم، هناك غصة في قلبي، ولا أعرف ماذا أفعل أو كيف أعيش!
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Haya حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -أختنا الفاضلة- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.
بداية: رحم الله والدك رحمة واسعة، وربط على قلوبكم بالإيمان، وألهمكم الصبر والسلوان، ونسأل الله أن يعينك على تجاوز ما تشعرين به من الندم والألم.
وعليك أن تسترجعي وتصبري على هذا الفقد، قال تعالى ﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ۗ وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾، وقال رسول الله ﷺ: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
أختي الكريمة: كثيرا ما تمر بنا مثل هذه المواقف في حياتنا العامة وفي علاقاتنا بمن حولنا، ومشاعر الفقد والفراق مؤلمة بطبيعتها، حتى إن رسول الله ﷺ بكى عند فراق ابنه إبراهيم وقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
أختي الفاضلة: إن الندم الآن والاعتراف بالتقصير -رغم صدق مشاعرك- لن يغير شيئا، بل قد يزيد ألمك وحزنك، وربما يستغل الشيطان ضعفك فيدفعك للاعتراض على قدر الله تعالى -والعياذ بالله-، وقد قال رسول الله ﷺ: وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان
واعلمي -حفظك الله- أن من فضل الله تعالى وكرمه أن بر الوالدين لا ينتهي بموتهما؛ فقد جعل الله من البر: الدعاء لهما، والصدقة عنهما، وصلة أهل ودهما، ونشر علمهما الصالح، والوقف من أموالهما… وكل ذلك خير يبقى موصولا لهما بعد الممات، قال رسول الله ﷺ: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
أختي الفاضلة: هوني على نفسك؛ فلم يكن في قلبك بغض ولا كره لوالدك، ولم يصدر منك عقوق ولا رغبة في الإساءة، والدليل أنك كنت حريصة على إصلاح سوء التفاهم بينكما، ومستعدة للمبادرة بذلك، والله سبحانه مطلع على ما في قلبك، ويعامل الإنسان على حسب بنيته، كما قال تعالى: ﴿ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا﴾ ومع ذلك، بادري بالتوبة والاستغفار ليطمئن قلبك أكثر، وتذكري قول الله تعالى: ﴿ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾.
وقد قال ﷺ: إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة.
وأخيرا -أختي الفاضلة-: إن البر بوالدك لم ينته، بل قد بدأ الآن بصورة أخرى؛ فهو اليوم أحوج ما يكون إلى دعائك وتضرعك إلى الله بأن يغفر له ويرحمه ويتجاوز عنه، وهذا كله -بإذن الله- مقدور عليه، فلا تتركي الدعاء له أبدا ما حييت، وتصدقي عنه بما تستطيعين.
ولا تجعلي الحزن يقطع قلبك أو يضعف نفسك؛ فلم يكن ما حدث منك عن عمد أو سوء نية، ولكن ألم الموقف، ثم ألم الفقد والفراق، جعلا الندم والحسرة أثقل في نفسك، ولعل في وجود والدتك ما يعوض بعض ما فقدته بفراق والدك، فلا تكرري ذلك التقصير معها.
وفقك الله، ويسر أمرك، وجبر مصابك، وربط على قلبك بالسكينة والطمأنينة.