لا أريد أن أكون عاقة لأمي رغم أذيتها لي، فكيف أتعامل معها؟

0 1

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

أنا امرأة أبلغ من العمر 29 عاما، غير متزوجة، وأقيم مع والدي وإخوتي، في الواقع، ترددت كثيرا قبل الكتابة؛ لأني لا أريد ذكر والدتي بسوء أمام الملأ، ولكني أريد التوجيه والنصح، ولا يمكنني الحديث في هذا الأمر مع أحد.

تؤذيني تصرفات والدتي كثيرا، خاصة تعاملها معي منذ صغري؛ من شتم، وضغط كبير، ومحاسبة على أتفه الأسباب (وضرب في صغري)، هي تفعل ذلك مع أفراد العائلة جميعا، ولكني أنال النصيب الأكبر؛ من لوم وعتاب يومي حتى على أخطاء إخوتي، أو عند وقوع أي مكروه لهم، كما أنها تلومني إذا أصابني سوء أو مرض، وأحيانا تفتري علي، وتفرغ غضبها في إذا واجهت أي مشكلة.

بصراحة: تكونت فجوة كبيرة بيننا؛ إذ لا أحدثها عن شؤوني الخاصة؛ لأني لا أجد منها سوى العتاب والتعيير، ولا أجد استماعا أو عطفا، أحاول دائما محادثتها ووصلها، ولكن مع الوقت لم يعد بإمكاني احتمال ادعاءاتها علي، فأرد عليها دون قصد، دفاعا عن نفسي؛ فأنا لا أشتمها ولا أسبها أبدا، ولكن رد فعلي هذا يجعلها تتمادى أكثر.

حاليا أنا لا أعمل، فقد قررت التوقف مؤقتا؛ لأن ضغوط العمل والمنزل معا أرهقتني كثيرا، لكن هذا القرار زاد الأمر سوءا، وفتح مجالا آخر لتعييري، أنا حقا لا أود أن تملأ صحيفتي بالسيئات بسبب طريقتها في معاملتي، علما بأن هذه الأمور أثرت علي كثيرا من الناحيتين الصحية والنفسية.

أتمنى السلام ورضا الله عني وعن المؤمنين كافة؛ لذا ساعدوني من فضلكم: هل يعد فعلي هذا عقوقا؟ وكيف أكظم غيظي ولا أستفز بكلامها؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ دعاء حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلا بك في موقعك (إسلام ويب)، ونسأل الله أن يشرح صدرك، ويهون عليك ما تجدين، ويكتب لك الأجر الكامل؛ فما كتبته يدل على عقل راجح، وحرص على طلب مرضاة الله، ورغبة صادقة في الإصلاح، وهذا بحد ذاته نعمة عظيمة.

ودعينا نجيبك من خلال ما يلي:

أولا: هل ما تفعلينه يعد عقوقا؟ سنتجاوز الحديث عن وجوب البر وفضله؛ لأن هذا -والحمد لله- مستقر عندك، وسنجيبك عن السؤال الذي أقلقك:

العقوق -أختنا الكريمة- هو قصد إيذاء الوالدين، أو رفع الصوت عليهما، أو السب، أو الامتناع عن أداء حقوقهما الأساسية، أو معاملتهما معاملة مهينة، وأنت -بحسب كلامك- لا تسبين ولا تشتمين، بل تدافعين عن نفسك عند الاتهام أو الظلم، وهذا -وإن كان دون المأمول- إلا أنه ليس عقوقا ما دمت لا ترفعين صوتك عليهما، ولا تتجاوزين حدود الأدب، أما المأمول والأتم، فهو تحمل إساءتهما ومقابلة الإساءة بالإحسان، قال تعالى: ﴿وقل لهما قولا كريما﴾؛ فالقول الكريم لا يعني السكوت المطلق، بل يعني الرد بأدب واحترام، حتى لو كان الوالد مخطئا.

ثانيا: ما تمرين به ابتلاء وليس عقوبة؛ فأذية بعض الآباء ليست دليلا على غضب الله عليك، بل قد تكون بابا عظيما للأجر، قال تعالى: ﴿وبشر الصابرين﴾؛ والابتلاء باللسان القاسي أصعب من ابتلاء المرض أحيانا، والصبر عليه له أجر كبير.

ثالثا: كيف تكظمين الغيظ؟ يحدث ذلك بالتدرب على عدة أمور، منها:

التفريق النفسي بين المحبة الفطرية والخطأ: من المهم أن يكون في ذهنك فصل واضح بين محبة الأم الفطرية لابنتها وبين أخطائها في التعامل؛ فمحبة الأم ليست شيئا مكتسبا أو مشروطا، بل هي أمر جبلي يضعه الله في قلب كل أم؛ لذا وصى الله الولد كثيرا بوالديه، قال تعالى: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه﴾، وهذه الوصية إنما جاءت لأن العلاقة الأصلية قائمة على الرحمة والمودة، أما التصرفات الجارحة أو الغلظة في القول، فقد يكون وراءها أسباب نفسية، أو تربوية، أو مصاعب حياتية، أو أنماط اعتادت عليها الأم منذ صغرها، وحين تدركين أن الخطأ عارض وليس دليلا على قلة المحبة، يخف شعور الظلم في قلبك، ويصبح رد الفعل أكثر هدوءا.

استحضار عظم ما قدمته الأم من تعب وتضحية: تعلمين -أيتها الكريمة- أنك مهما بذلت من بر، فلن تصلي إلى حق الأم أو تقتربي منه؛ فهي التي تحملتك من قبل الولادة إلى اليوم، وهذا مما لا يحيط به إلا الله، وقد ورد في الحديث أن رجلا حمل أمه على ظهره في الطواف فقال: أتراني جازيتها؟ فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: لا، ولا بطلقة واحدة استحضار هذا المعنى يخفف حدة الغضب، ويعيدك إلى نية الشكر لله تعالى على نعمة الوالدين، كما قال تعالى: ﴿أن اشكر لي ولوالديك﴾؛ فكل إحسان تقدمينه -ولو كانت الأم مخطئة- فهو في ميزان حسناتك، وهو شكر لله أولا، ثم بر بمن أحسنت إليك دهرا.

إدراك أن الصبر على الوالدين باب من أبواب الأجر: البر ليس مكافأة مقابل حسن المعاملة، بل هو عبادة؛ ومن صبر على أذية لفظية من والدته دون إساءة أو تعد، رجي له الثواب العظيم، قال تعالى: ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس﴾، وكظم الغيظ هنا ليس استسلاما، بل امتلاك للنفس كما وصفه النبي ﷺ حين قال: إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.

التزام الهدوء والانسحاب اللطيف عند بداية الكلام المؤذي: حين يبدأ الكلام الجارح، يكفي أن تردي بهدوء شديد: (يا أمي، أنا مرهقة، وأنت لك كامل الحق، وأنا أتفهم غضبك، لكن دعينا من فضلك نؤجل الحديث)، ثم تنسحبين بأدب دون عناد، هذا يحفظ كرامتك، ويبعدك عن الذنب، ويمنع استفزازها.

وضع حدود مهذبة بلا خصومة: يجوز شرعا -بل هو من الحكمة- وضع حدود لا تفهم على أنها عقوق، كأن تقولي: (أمي، أنا أسمعك وأحترمك، لكن يؤذيني أن أعاتب على أمور لم أفعلها)، مثل هذا الكلام المهذب يخفف حدة الموقف دون عدوان، والمهم أن يقال في وقت لا تكون فيه غاضبة.

الدعاء لها واللجوء إلى الله عند الضيق: الدعاء يصفي القلب، ويخفف الاحتقان، ويعينك على الصبر؛ فكلما قلت: (اللهم اهد قلب أمي، وأصلح ما بيني وبينها، وبارك في صحتها وحياتها)، ستجدين طمأنينة في النفس.

والخلاصة: أمك اليوم عندك، بينما كثير من الأخوات فقدن أمهاتهن ويبكين كل يوم على ضياع هذا الأمان؛ فاستغلي وجودها وأحسني إليها، فهذا باب عظيم مفتوح لك.

نسأل الله أن يبارك فيك، وأن يحفظك، والله الموفق.

مواد ذات صلة

الاستشارات