السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لدي مشكلة؛ وهي أنني أتحسس من فترة سيئة مررت بها في الماضي، ألا وهي فترة التجنيد الإجباري؛ ففي هذه المرحلة تعرضت لإذلال نفسي دون قدرة على الرد، فلحقني الغضب حتى بعد أن أنهيت تلك الفترة بسنوات.
ما يضايقني أكثر، أن الأفراد الذين كانوا يذلوننا، أصبحوا يتعاملون معنا لاحقا وكأننا شيئا لم يكن، وكأن علينا أن نتقبل إهانتهم، وكان من إهاناتهم أن قال لي أحدهم: سأجعلك تتذكرني حتى بعد زواجك وأنت مع زوجتك! وغير ذلك من الأساليب.
وقد ارتبط لدي ذهنيا بأني أشعر أنني لو تزوجت فسأتذكر هذه المرحلة، وأخشى أن ينغص ذلك على تعاملي مع زوجتي وأبنائي، أو أن أشعر بالمهانة فلا أقدر أن أقوم بدوري، علما بأني قبل تلك المرحلة كنت أبيا، عزيز النفس، لا أقبل الإهانة، وكنت محترما بين معارفي، ثم تحول الأمر إلى أنني صرت أتذكر تلك المرحلة كلما احترمني أحد، فما نصيحتكم لتجاوز هذا الأمر؟ وهل ترون أني أضخم الأمر؟
وشكرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أسامة حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا بك في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله العظيم أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان.
نتفهم حديثك جيدا، ونرجو أن تقرأ الجواب بعين فاحصة؛ حتى تتجاوز هذه المحنة سريعا -إن شاء الله-، وسنقسم الجواب إلى ما يلي:
أولا: أنت صاحب كرامة، وما حدث لا ينسخ حقيقتك، وهذه ليست دعوى طارئة، بل حقيقة ثابتة يشهد لها:
- ما كنت عليه قبل تلك المرحلة.
- وما عدت إليه بعدها.
- وكيف يراك الناس اليوم.
أما فترة التجنيد الإجباري: فهي مرحلة عارضة، استثنائية، لها أحكامها القهرية التي لا تقاس عليها القيم، ولا يعاد بها تعريف الإنسان، وهي ظرف قاس عند البعض، أو الأغلب، لكنه ينقطع بانتهاء سببه، ولا يملك أن يمتد تعريفا دائما للذات، إلا إذا سمح له بذلك في الداخل.
وعليه فما وقع عليك من تجاوز لم يكن كشفا عن ضعفك، بل نتيجة مباشرة لغياب الخيار، وغياب الخيار يسقط المحاسبة الأخلاقية عن المقهور؛ قال تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾، والـوسع هنا القدرة الواقعية في الظرف، لا الصورة المتخيلة بعد زواله.
ثانيا: الإذلال الذي وقع عليك سمة في فاعليه لا فيك، ومن المهم أن يفهم هذا الفهم على وجهه الصحيح؛ فما جرى لك ليس حالة خاصة بك، ولا لأن فيك نقصا، بل هو سمة عامة في بعض الناس داخل تلك البيئات، ولا يخرج تفسيرهم عن ثلاثة أنماط:
- قوم عندهم مشكلة داخلية: غضب، قهر سابق، شعور بالنقص، فيفرغونه في من لا يستطيع الرد.
- قوم فعل بهم ما يفعلون، فلما أعطوا سلطة عارضة أعادوا إنتاج القهر بدل كسره.
- قوم يتصرفون اتساقا مع طبيعة نظم إدارية قهرية مرادة، فمرحلة التجنيد تدار على منطق الضبط والكسر، لا على منطق العدل والتربية.
وفي جميع هذه الصور، الإذلال وظيفة يؤديها السياق، لا حكما على قيمة المذلول.
ثالثا: لماذا بقي الأثر؟ ولماذا يظهر مع الاحترام؟
الأثر لم يبق لأنك ضعيف؛ بل لأن الجرح لم يسم باسمه الصحيح، عقلك لم يربط تلك الذكريات بالزمن، بل ربطها بالكرامة؛ فكلما عاد إليك الاحترام، استدعيت في داخلك لحظة سلبت فيها قسرا، لا لأنك تفتقدها، بل لأنك تعرف قيمتها جيدا، وهذا دليل حياة في النفس، لا دليل هوان.
رابعا: لا تحاكم نفسك بمعيار لم يكن متاحا لك؛ فمن الظلم أن تحاسب نفسك اليوم بمعيار لم يكن ممكنا لك حينها، ولو رأيت إنسانا تحت سلطة قاهرة، ومهددا بالعقاب، ولا يملك خيار الرفض، هل ستقول له: لماذا لم ترد؟ أم ستقول: "هذا قهر، لا ينسب إليه"؟ ثم إن إعادة محاكمة النفس بعد زوال القهر ظلم ثان، يزيد الألم بدل أن ينهيه.
خامسا: هل تخشى أن يفسد ما حدث لك الزواج؟ وهل يجب تجاهله؟
الجواب المختصر: لا يخشى، ولا يحتاج إلى تجاهل قسري.
أولا: العبارة التي قيلت لك: (سأجعلك تتذكرني حتى بعد زواجك وأنت مع زوجتك)هذه العبارة: ليست خاصة بك، بل يقولها هذا النمط من الناس لغيرك، وهي كلام تهديدي فارغ، لا يملك صاحبه أي قدرة على إمضاء ما قال؛ فهو لم يكن يتنبأ، ولم يكن يملك سلطة على مستقبلك، بل كان ينفث سما كلاميا، والمشكلة لم تكن في الكلام، بل في أنك –بحسن نية وصدق نفس– أخذته على محمل الحقيقة، والحقيقة أن الذكريات لا تفرض، ولا أحد يملك أن يحجز مكانا في حياتك الزوجية بكلمة.
ثانيا: الزواج ليس ساحة لاستدعاء القهر؛ بل الزواج مرحلة جديدة بوظائف جديدة: سكن، مودة، مسؤولية، وأبناء، قال الله تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها﴾، والسكن لا يتحقق بتجاهل الماضي قسرا، بل بوضعه في حجمه الصحيح: تجربة انتهت، لا حكما مستمرا.
ثالثا: ما الذي ينبغي فعله إذن؟
ليس المطلوب أن تنفي ما حدث، ولا أن "تتجاهله"، بل أن تسحب منه سلطة التفسير؛ أي: أن ذلك حدث، وانتهى زمنه، ولا يعرفني، ولا يحكم مستقبلي، وحين تعاد الأمور إلى هذا الموضع، فإن الكلام القديم يفقد أثره تلقائيا.
وختاما: أنت لم تهزم، بل أنت خرجت من تجربة قهر، ولم تسمح لها أن تفسد خلقك، وهذا في ذاته انتصار، والألم الذي تشعر به اليوم ليس خوفا من الزواج، بل حرصا على ألا يدخل حياتك ما لا يستحقها، وعليه فلا تقلق مما حدث، ولا تفكر فيه بهذه الطريقة، واستقبل حياتك بشكل طبيعي.
نسأل الله أن يشرح صدرك، وأن يكتب لك سكينة لا يشاركك فيها أثر قديم، ولا صوت عابر.
والله الموفق.