خطورة سماع الشبهات على غير الراسخين في العلم

0 386

السؤال

أنا من عائلة غير ملتزمة، وأنا كنت كذلك، وفي سن 16 هداني الله على يد أحد الدعاة، وأصبحت من الملتزمين وارتديت النقاب والعباءة، وتركت الغناء، وأصبحت أصوم النوافل وأقوم الليل، وفي أحد الأيام شاهدت على أحد القنوات الإسلامية برنامجا يتحدث عن النصرانية من باب التعايش، شاهدته من باب الفضول وبعد أيام دخلت بأسئلة وشكوك لا أعلم أجوبتها، وبدأت أبتعد عن الدين. فماذا أفعل؟
دائما تأتيني أسئلة لا أعلم إجاباتها وأريد فقط الإجابة عليها لينار قلبي من جديد، فأنا أعشق الإسلام ولا أبتغي غيره بدلا. والأسئلة هي:
لماذا خلقني الله؟ ولماذا خلق الله الأرض والملائكة وهو الغني عن العالمين؟ ماذا أفعل يوم القيامة إذا كانت النصرانية هي الدين الصحيح؟ وهل من المعقول أن يكون الإسلام هو الصحيح وعدد النصارى يفوقنا ؟
كيف أعرف الصواب في كافة الأمور وكيف يختار عقلي الصواب؟ مادام الإسلام هو الصحيح فلما لا يسلم جميع الناس وخاصة أن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون؟
أرجوك ساعدني، أرجوك أريد أن أعود مسلمة ملتزمة كما كنت أرجوك ساعدني وادعو الله أن يهديني؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فنسأل الله تعالى أن يهديك، وأن يشرح صدرك، وأن يغفر ذنبك، وأن يلهمك رشدك، ويقيك شر نفسك .

ثم اعلمي أيتها الأخت السائلة أن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار، ويحكم لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، فكل أفعاله تعالى منطوية على الحكمة التامة، وله فيها الحجة البالغة، فلم يخلق الكون لعبا، ولا العباد عبثا، ولن يتركهم سدى، بل خلق الخلق مع غناه عنهم لحكمة تامة، أشار إليها فقال تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون.  {الدخان:38، 39}.

 قال البغوي: إلا بالحق. يعني للحق، وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. اهـ.

وقال السعدي: يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام حكمته، وأنه ما خلق السماوات والأرض لعبا ولا لهوا أو سدى من غير فائدة، وأنه ما خلقهما إلا بالحق أي: نفس خلقهما بالحق وخلقهما مشتمل على الحق، وأنه أوجدهما ليعبدوه وحده لا شريك له وليأمر العباد وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم. ولكن أكثرهم لا يعلمون. فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات والأرض. اهـ.

وهذه الحكمة من خلق الله تعالى للسموات والأرض صرح بها  في قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا. {هود: 7}.

 قال السعدي:  ليبلوكم أيكم أحسن عملا . أي: ليمتحنكم، إذ خلق لكم ما في السماوات والأرض بأمره ونهيه، فينظر أيكم أحسن عملا . وهذا كما قال تعالى:  وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. وقال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما. فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك، فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين، ومن أعرض عن ذلك، فأولئك هم الخاسرون، ولا بد أن يجمعهم في دار يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم. اهـ.

فانقسم الناس بهذا الابتلاء إلى شقي وسعيد بحسب أعمالهم، قال سبحانه: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا. {الملك: 2}. وقال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون  ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين.  {العنكبوت:2، 3}. وقال عز وجل: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب. {آل عمران: 179}.

وبهذا يعلم لماذا انقسم الناس إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، فقد اقتضت حكمة الله ألا يهدي الجميع بل يمتحنهم لتظهر معادنهم، قال تعالى: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون. {النحل: 93}. وقال: ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير. {الشورى: 8}. وقال: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون . {يونس:99، 100}.

وقد سبق الكلام عن الحكمة من خلق العباد في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 723، 5492، 114255.

وأما مسألة النصرانية واحتمال كونها هي الدين الحق، فلتعلم السائلة أن المسلم بفضل الله تعالى يؤمن بكل الأنبياء وجميع الكتب السماوية، وهذا ركن في إيمانه لا يتحقق إلا به، فالمسلم يؤمن بنبوة عيسى وبأن الله أنزل عليه الإنجيل، وكذلك الحال مع موسى عليه السلام والتوراة، كما يؤمن أن عقيدته هي عقيدة موسى وعيسى وبقية الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم، هذه العقيدة التي تدور على توحيد الله والإيمان به والاستسلام لأمره والانقياد لحكمه.

ومن جهة أخرى فقد كان ضمن رسالة عيسى عليه السلام البشارة بنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل الكتاب حرفوا وبدلوا، وقد سبق أن بينا أن الإسلام دين جميع الأنبياء، وعمره عمر البشرية، في الفتوى رقم: 65031.

ثم إن هذا السؤال يتوجه لكل صاحب ملة: ماذا سيفعل يوم القيامة إن كان الحق في غير دينه. وهذا يتطلب بذل الجهد للتعرف على الدين الحق، حتى إذا عرفه الإنسان تمسك به واستقام عليه. وقد سبق لنا بيان دلالات الدين الحق في الفتوى رقم: 74500كما سبق بيان الدلائل والبراهين على صحة دين الإسلام في الفتويين: 20984، 54711.

ثم إن كان عدم إيمان جميع الناس بالإسلام دليلا على عدم صحته، فهذا يعني أنه ليس هناك أي دين صحيح، لأنه ليس هناك دين يجتمع عليه الناس كلهم.

وأما مسألة زيادة عدد النصارى على المسلمين، فهذا لا يدل على شيء، فالحق لا يعرف بالكثرة، فإن الناس كما هو مشاهد ومعروف يتبعون أهواءهم، ويعرضون عن الحق إذا لم يتفق مع أهوائهم، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. {التوبة:34}. وقد صرح القرآن بأن الأكثرية على خلاف الهدى، فقال تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. {يوسف:103}. وقال سبحانه: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون. {يوسف:106}.

وأما كيفية معرفة الصواب في كافة الأمور، فهذا طريقه بعد الاستعانة بالله تعالى وصدق اللجوء إليه وحسن التوكل عليه، يكون بطلب العلم وعمق التفكر، وقد سبق لنا بيان أن مواجهة الشكوك والشبهات تكون بالإيمان والعلم، في الفتوى رقم: 61074. وأقرب طريق لهذا هو الإقبال على القرآن الكريم الذي هو كلام الله الحق، قراءة وتدبرا، ففيه حكم ما بيننا، ونبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وقد سبق بيان الأدلة القاطعة على صحة القرآن والسنة، في الفتويين: 19694، 8187.

وأخيرا ننبه السائلة على أنه لا يصح أن يزج المرء بنفسه في ما لا يحسنه، وأن يخالط أهل الشك والريب الذين يثيرون الشبهات، طالما أنه ليس من الراسخين في العلم، وراجعي الفتوى رقم: 101040.

وأمر آخر وهو أن العقل الإنساني مهما أوتي من قوة وإدراك فهو محدود للغاية، فهو يجهل كثيرا من أسرار نفسه فضلا عن الخلق والكون من حوله، قال تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. {الإسراء: 85}. وقال: والله يعلم وأنتم لا تعلمون .{البقرة: 216}. فكيف يستطيع هذا الإنسان الضعيف الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، وخلقه وأمره!؟

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة