فضل العالم على العابد وكيفية عبادة الله على علم

0 1246

السؤال

يقول الله تعالى في الحديث القدسي: مازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، إلى نهاية الحديث.
وقرأت في أحد الكتب أن عالما أشد على الدين من ألف عابد.
أليس العابد هو من يتقرب إلى الله بالنوافل؟ إذن ـ فالله يحبه ويحميه ويحفظ له إيمانه ويبعد عنه الشيطان فكيف يأتي اليوم الذي يفقد فيه العابد إيمانه عن جهل؟ أليس الله يحمي عبده وينصره؟.
وكيف لنا أن نعبد الله سبحانه وتعالى عن علم وليس عن جهل؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالحديث المذكور رواه البخاري في صحيحه، وبداية الحديث ونهايته توضح المقصود بالعبد هنا وأنه ليس مجرد العابد الذي يتقرب بالنوافل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.الحديث.

وقد قام العلماء بشرح هذا الحديث، وهم سائر شراح البخاري، وقام بشرحه العلامة ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في جامع العلوم والحكم، وشرحه ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في رسالته القيمة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, وأفرده الشوكاني ـ رحمه الله ـ بكتاب ضخم سماه: القطر الجلي شرح حديث الولي.

وليس المقصود بالعابد الذي ينال ولاية الله وحفظه وتأييده هو من تقرب إلى الله بالنوافل فقط، بل هو من تقرب إلى الله بأداء فرائضه وأعظمها الإيمان بالله وانتهى عن منهياته وأشدها الشرك بالله ثم ترقى إلى منزلة المحسنين والمقربين فأدى النوافل واجتنب المكروهات كل هذا على بصيرة وبينة مع إتيانه في كل أعماله بالإخلاص ومتابعة السنة حتى يتقبل عمله، فهذه صفة العبد الذي يحفظه الله ويثبته ويختم له بالخاتمة الحسنة ويعيذه من الشيطان، كما في هذا الحديث: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.

وكما في قوله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون {يونس:62- 63}.

فهذا لا يسلب إيمانه ولا تضره فتنة ما بقيت السموات والأرض ويوفقه الله للموت على الإسلام والإتيان بأمره سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {آل عمران: 102}.

 وما أجمل قول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية حيث قال: أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذا بالله من خلاف ذلك. هـ.

وأما القول الآخر الذي في السؤال وتوهمت السائلة معارضته للحديث السابق فلفظه المشهور: فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.

  والجواب عن الإشكال الذي لدى السائلة من وجوه:

الأول: أن هذا الحديث ضعيف لا يصح وقد أنكره طائفة من الحفاظ وحكم كثير منهم بأنه حديث مكذوب كابن حبان والساجي وغيرهم.

الوجه الثاني: أن المقصود بالشدة على الشيطان هنا هو أن الشيطان لا يستطيع أن يفتن العالم عن طريق الشبهات التي يزخرفها نتيجة لاعتصام العالم الرباني بالكتاب والسنة ومعرفته بحيل الشيطان وعداوته ومعرفته بالصراط المستقيم وما يضاده، ولذا كان أشد على الشيطان من العابد الجاهل الذي لا يعلم ما يعلمه العالم.

الوجه الثالث: أن الزيادة في العلم أفضل من نوافل العبادات، وأن العالم أفضل من العابد وهذا بإجماع المسلمين، ففي السنن الأربعة ومسند الإمام أحمد، وصححه جمع من الحفاظ عن كثير بن قيس قال: كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاءه رجل فقال يا أبا الدرداء: إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر .

فهذا أعظم بيان لفضل العالم على العابد، قال المناوي: نفل العلم أفضل من نفل العمل، كما أن فرض العلم أفضل من فرض العمل، وفضل العلم ما زاد على المفترض.

عن أبي هريرة وأبي ذر، قالا: باب من العلم يتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع، وباب من العلم يعلمه ـ عمل به أو لم يعمل به ـ أحب إلينا من مائة ركعة تطوع.

ويمكنك مراجعة ما ورد في هذا الباب من فضل العلم وكلام العلماء على ذلك في كتاب: جامع بيان العلم وفضله للحافظ ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ وفي كتاب: مفتاح دار السعادة للحافظ ابن القيم ـ رحمه الله.

الوجه الرابع: أن هذا القول وهو: فقيه واحد إلخ، ليس فيه أن العابد يسلبه الشيطان إيمانه، وإنما فيه الإخبار بفضل الفقيه على العابد.

الوجه الخامس: أن فقد الإيمان ـ والعياذ بالله ـ له أسباب ولا يقتصر فقد الإيمان على العابد الجاهل فقط، بل العالم ـ أيضا ـ قد يفقد إيمانه وتسوء خاتمته لأسباب ذكرها العلماء ويجمعها ما ذكره ابن حجر نقلا عن عبد الحق في كتاب العاقبة أنه قال: إن سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه وصلح ظاهره، وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب، ويكثر وقوعه للمصر على الكبائر والجريء على العظائم فيهجم عليه الموت بغتة. هـ.

ولمعرفة المزيد عن أسباب الانتكاس وحسن وسوء الخاتمة وعلامات ذلك نرجو مراجعة الفتاوى التالية أرقامها وما أحيل عليه فيها: 4001، 35806، 58553.

وبهذا يتبين أنه لا إشكال وأن الله يحفظ من يعبده من العلماء والعباد ويثبتهم ومن انحرف منهم أو ضل فبسبب تقصيره فيما يجب عليه من التقوى والعلم، أو بسبب إتيانه بما نهاه الله عنه من أسباب الخذلان وعدم التوفيق.

وأما عن كيفية عبادة الله على علم وليس على جهل فيكون ذلك بأن يتعلم المسلم ما يجب عليه فعله فيعرف الصلاة الصحيحة من غيرها وكذا أحكام الطهارة وصيام رمضان، وإن كان من أهل الأموال يعرف حكم الزكاة وما يجب عليه في ماله من حق، وإن كان من أهل الاستطاعة على الحج فيعرف أن الحج واجب عليه ثم يعرف كيف يحج حجا صحيحا متقبلا، وهكذا يلزمه أن يتعلم أحكام الحرفة التي يحترفها فيعرف الحلال والحرام وينبغي له أن يجتهد في تعلم ما زاد على ذلك، وإذا لم يستطع المسلم التعلم فيسأل أهل العلم، ويستمع إلى دروسهم ومحاضراتهم حتى يعبد الله على بصيرة وتكون عبادته صحيحة مقبولة، وقبل كل هذا يتعرف على وحدانية الله وأسمائه وصفاته وأركان الإيمان.

وقد بينا العلم الذي يجب تعلمه على كل مسلم في الفتاوى التالية أرقامها:  11280، 98392، 15872 فراجعيها.

وفصلنا آداب ووسائل وكيفية طلب العلم في الفتاوى التالية أرقامها فراجعيها: 4131، 18640، 121056.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة