الحكمة في قول الله" لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

0 394

السؤال

قال تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) لماذا يريد الله أن يملأ جهنم بالإنس والجن ويعذبهم وهو الرحيم القادر على هدايتهم؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فبداية ننبه على أن لفظ الآية الكريمة هكذا: من الجنة والناس أجمعين. {السجدة: 13}.

وأما جواب السؤال فيستبين من تدبر كلمة حق. فدخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار هو الحق الذي يناسب حكمة مصير كل إنسان إلى العاقبة التي تجانس عمله؛ إحقاقا للحق، وإبطالا للباطل، ولذلك قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: وإنما قضى عليهم بهذا لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى. اهـ.

وقد اقتضت حكمة الله تعالى وعدله ألا يسوي بين المختلفين، ولذلك قال في سياق آيات سورة السجدة نفسها: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون. {السجدة: 18}. وهذا نص عليه القرآن في مواضع؛ كقوله تعالى: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار {ص: 28} وقوله: أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون {القلم: 35-36} وقوله: وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون {غافر: 58}.

وهذا يبين أن إحقاق الحق الذي هو مقتضى العلم والعدل والحكمة، هو السبب في انقسام الناس إلى شقي في النار وسعيد في الجنة، ولذلك قال الله تعالى في الآية التي بعدها: فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون {السجدة: 14}. فهم لم يدخلوا النار إلا بسوء صنيعهم.

 فعلم من هذا أن امتلاء جهنم بهؤلاء لاستحقاقهم العذاب؛ وإلا فإن الله تعالى غني عن أن يعذب عباده، فقد صرح سبحانه أنه لا ينفعه ذلك، ولا يريده شرعا لكن الناس أنفسهم يظلمون؛ كما قال تعالى: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم {النساء: 147}. وقال: إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور {الزمر: 7}.

ولقد أشار القرآن المجيد إلى ذلك الحق في عدة مواضع، كقوله عز وجل: لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون {يس: 7}.

 قال السعدي: إنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم. اهـ.

وقوله تعالى: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم {الأنعام: 115} وقوله: وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين {هود: 119}.

 قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره، لعلمه التام وحكمته النافذة، أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس، وله الحجة البالغة والحكمة التامة. اهـ.

وعلى ذلك فرحمة الله تعالى ورأفته وحلمه وعفوه ونحو ذلك من صفاته، لا يصح أن تفصل عن علمه وحكمته وعدله وعزته وجبروته وانتقامه ونحو ذلك من صفاته؛ فإن قضاء الله وقدره يجري بمقتضاها جميعا.

وقد عقد ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق فصلا مطولا للكلام في حكمة الله تعالى في مشيئته ومحبته وأفعال العباد وما يتعلق بها من الكفر والفسق والوعد والوعيد، ونقل خلاله كلام الغزالي وهو قوله: لعلك تقول: ما معنى كونه رحيما وأرحم الراحمين والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا وهو قادر على إزالة جميعها وتارك عباده ممتحنين ؟ فجوابك: أن الطفل المريض قد ترثي له أمه فتمنعه من الحجامة، والأب العاقل يحمله عليها قهرا، والجاهل يظن أن الرحيم هو الأم دون الأب، والعاقل يعلم أن إيلام الأب بالحجامة من كمال رحمته، وأن الأم عدو له في صورة صديق، فإن ألم الحجامة القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا بل كان خيرا، والرحيم يريد الخير بالمرحوم لا محالة، وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير، ولو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه وحصل ببطلانه شر أعظم من الشر الذي يتضمن ذلك الخير. اهـ.

ثم قال: وما أبين هذا المعنى في كتاب الله تعالى، ولو لم يرد فيه إلا قوله سبحانه وتعالى: ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون {المؤمنون: 75}.  وقوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم {البقرة: 216} وقوله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض {الشورى: 27} وقوله تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى {العلق: 6-7} وقوله تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة {الأنبياء: 35} وقوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين {آل عمران: 142} وقوله تعالى في تعليل أفعاله بالحكم في الآخرة: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون {الأنعام: 28}.  إفحاما لسائلي ذلك، ومرة أجاب عليهم بقوله تعالى: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين {السجدة: 13} ولا خفاء أن قوله حق القول واضح في مواقفه الحكمة، وإلا لما كان بأن يحق أكمل في الثناء على الله تعالى من أن لا يحق، فتأمل ذلك يوضحه قوله تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين {الأنبياء: 16}. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة