تأويل قوله عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ

0 379

السؤال

ما تفسير قوله تعالى في كتابه: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"؟ وهل تفسير ابن مسعود - رضي الله عنه - ملزم أم يمكن الأخذ عن باقي التابعين الأجلاء - كطاووس وعطاء -؟ وهل لعلو مكانة ابن مسعود - رضي الله عنه - عنهم أثر في تقديم فهمه عليهم, أم نعمل بقول أبي حنيفة: "هم رجال, ونحن رجال"؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فلا شك في فضل ابن مسعود - رضي الله عنه - على التابعين, ومثله ابن عباس - رضي الله عنهما - فقد نقل عن كل منهما تفسير لها, وتابعهما بعض السلف من التابعين وغيرهم فيه.

وينبغي حمل قول كل منهما على حال, فنقول: قد حكم الله تعالى بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله، وحكم عليه بالكفر والظلم والفسق في آيات سورة المائدة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44]، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون [المائدة:45]، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة:47]. وهذا الكفر متردد بين أن يكون كفرا أصغر أو كفرا أكبر، بحسب حال الحاكم،  فمن حكم بغير ما أنزل الله مستحلا له وجاحدا لحكم الله، أو يرى أن حكم القوانين التي وضعهما البشر أحسن من حكم الله، فهو كافر كفرا أكبر مخرجا من الملة؛ وعلى هذا يحمل تفسير ابن مسعود.

وأما من غلبه هواه فحكم بغير الشرع مع اعترافه بالحق، فهو مخطئ آثم, ولا يخرج عن الملة.

ويمكن ان يطلق عليه أنه كافر كفرا أصغر لا يخرج عن الملة، وهذا هو المقصود بقول ابن عباس - رضي الله عنهما: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه, إنه ليس كفرا ينقل عن ملة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} كفر دون كفر.

وقد فصل في المسألة الشيخ الشنقيطي في  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن, وذكر أقوال الصحابة والعلماء فيها فقال: قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة: هل هي في المسلمين، أو في الكفار، فروي عن الشعبي أنها في المسلمين، وروي عنه أنها في اليهود، وروي عن طاووس أيضا أنها في المسلمين، وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه ابن أبي حاتم، والحاكم, وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، قاله ابن كثير.

قال بعض العلماء: والقرآن العظيم يدل على أنها في اليهود؛ لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم: {يحرفون الكلم من بعد مواضعه}، وأنهم يقولون: {إن أوتيتم هذا}، يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله: {فخذوه وإن لم تؤتوه} أي: المحرف، بل أوتيتم حكم الله الحق: {فاحذروا}، فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق.

  وقد قال تعالى بعدها: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية، فدل على أن الكلام فيهم، وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب، كما دل عليه ما ذكر البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مجلز، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة, وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري, وغيرهم، وزاد الحسن، وهي علينا واجبة, نقله عنهم ابن كثير، ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي.
وقال القرطبي في تفسيره: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} و{الظالمون} و{الفاسقون}، نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم, وعلى هذا المعظم، فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل: فيه إضمار، أي: {ومن لم يحكم بما أنزل الله}، ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قاله ابن عباس, ومجاهد.

فالآية عامة على هذا, قال ابن مسعود، والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي: معتقدا ذلك ومستحلا له.
فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه مرتكب محرم فهو من فساق المسلمين, وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.

وقال ابن عباس في رواية: {ومن لم يحكم بما أنزل الله}، فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار، وقيل: أي: ومن لم يحكم بجميع ما أنزل فهو كافر, فأما من حكم بالتوحيد، ولم يحكم ببعض الشرائع: فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول, إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس, قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء.

منها أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى: {للذين هادوا}، [5/44] فعاد الضمير عليهم. اهـ

 والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات