تدبر القرآن، وإثبات كون القرآن من عند الله

0 479

السؤال

منذ فترة وأنا أحاول أن أتلذذ بالقرآن وأتدبره، ولا أعرف لمذا لا أتلذذ به، فكيف أتدبر ويرق قلبي؟ في بعض الأحيان وأنا أتلو القرآن مثل: قصة لوط.. يأتي الشيطان ويقول إن لوطا لم يكن موجودا، أو ما هو الإثبات أن القرآن من عند الله؟ فكيف أزيل هذا الظلمات؟ الرجاء عدم تحويلي إلى فتاوى سابقة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله عز وجل قد أمر بتدبر القرآن في أكثر من موضع، فقال جل من قائل: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا {النساء:82}.

وقال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب {ص:29}.

واللام التي في قوله تعالى: ليدبروا آياته ـ تدل على أن القرآن ما نزل لمجرد تلاوة حروفه فقط، وإنما نزل من أجل التدبر في معانيه، والتفكر في مضمونها لأخذ العبر من قصصه، وللاستفادة من مواعظه، وامتثال أمره، والكف عن نهيه، قال الطبري في تفسيره: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد مبارك ليدبروا آياته، يقول ليتدبروا حجج الله التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به. اهـ.

وقد أكد أهل العلم على أهمية تدبر القرآن عند تلاوته، فقال النووي رحمه الله: فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال الله عز وجل: أفلا يتدبرون القرآن ـ وقال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ـ والأحاديث فيه كثيرة، وأقاويل السلف فيه مشهورة، وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح، وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة، ومات جماعة حال القراءة. اهـ.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيخرج ناس يقرؤون القرآن دون تدبر، فقال صلى الله عليه وسلم: سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن. رواه الطبراني، وحسنه الألباني.

قال المناوي في فيض القدير في شرح هذا الحديث: أي يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه، ولا تأمل في أحكامه، بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة. اهـ.

فعلى العبد أن يجاهد نفسه على تدبر القرآن والتأمل في معانيه والاتعاظ بها، ومما يعين على ذلك ما يلي:
1ـ استشعار عظمة الله، وأن هذا القرآن هو كلامه سبحانه وأمره ونهيه لعباده، فيتصور القارئ أنه يقرأ خطاب الله جل وعلا، وأن الله يخاطبه بهذا الكلام، فيتفهمه حتى يمتثل ما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه.
2ـ اختيار الأوقات المناسبة لتلاوة كتاب الله كالسحر وأول النهار مثلا، حيث يكون الذهن خاليا من المكدرات.
3ـ استجماع الذهن، والاستعاذة بالله من الشيطان وكيده.
4ـ اجتناب الذنوب والمعاصي، فإنها سد منيع يحول دون تدبر القرآن والاستفادة منه.
5ـ تحري الحلال من المطعم.
6ـ مصاحبة العلماء العاملين.

7ـ الإخلاص لله تعالى عند تلاوته.
8ـ فراغ القلب عن شواغل الدنيا، فإن ذلك أدعى لتحصيل الغرض وتحقق المقصود.

ومن قرأ القرآن بتدبر وتمعن وصرف قلبه ‏عن التفكير فيما سواه وتفهم ما فيه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد، سيجد في قلبه رقة ولينا وخشوعا ـ إن شاء الله تعالى ـ لأن الله تعالى يقول في شأن التأثر بالقرآن: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون {الحشر:21}.

وقال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون {الأنفال:2}.

وقال سبحانه: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين* الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله {الزمر:22ـ23}.

قال ابن كثير: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف: ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه:

أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات لأبيات، من أصوات القينات.

الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ـ وقال تعالى: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ـ أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها، فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.

الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله.

لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالقدح المعلى في الدنيا والآخرة. انتهى.

وأما عن الشك في قصة لوط عليه السلام: فهو فرع عن الشك في كون القرآن من عند الله تعالى، فلو أن شخصا صدق بكون القرآن من عند الله تعالى لا يسعه أن يشك فيما أثبته القرآن، وعلى من ابتلي بهذه الوساوس الشيطانية  أن يستهدي الله تعالى ويتضرع إليه ويدعوه في السجود وساعات الإجابة أن يشرح صدره للهدى ويبعد عنه الشكوك، وعليه أن يبذل قصارى جهده في هداية قلبه للحق واليقين به، فإن الله تعالى أنزل هذا الكتاب على نبيه الأمي الذي لم يقرأ الكتب السالفة ولا تلقى عن أهلها، ثم أخبر بما كان في الزمن الماضي على نحو مطابق لما بيد أهل الكتاب، وأخبر عن مغيبات، فوقعت كما أخبر، وتحدى به أهل زمانه ومن بعدهم إلى قيام الساعة أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله فعجزوا جميعا، قال الله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين { البقرة:23ـ 24}.

وللعلامة القاسمي ـ رحمه الله ـ كلام نفيس في بيان دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما أتى به من القرآن إنما هو من عند الله تعالى، فقد قال رحمه الله تعالى: تنبيه: هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدي الكافرين بالتنزيل الكريم، وقد تحداهم الله تعالى في غير موضع منه، فقال في سورة القصص: قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين {القصص: 49} وقال في سورة الإسراء: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا {الإسراء: 88} وقال في سورة هود: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين {هود: 13} وقال في سورة يونس: وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه، قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين { يونس: 38ـ 38} وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم أيضا في المدينة بقوله: وإن كنتم في ريب.. { البقرة: 23} إلى آخر هذه الآية، فعجزوا عن آخرهم: وهم فرسان الكلام، وأرباب النظام، وقد خصوا من البلاغة والحكم، ما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتو من ذرابة اللسان، ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب، ما يقيد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديها في المقامات وشديد الخطب ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون، ويقدحون، ويتوسلون، ويتوصلون، ويرفعون، ويضعون فيأتون بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللئال، فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويذهبون الإحن، ويهيجون الدمن ويجرئون الجبان، ويبسطون يد الجعد البنان، ويصيرون الناقص كاملا، ويتركون النبيه خاملا، منهم البدوي: ذو اللفظ الجزل والقول الفصل، والكلام الفخم، والطبع الجوهري، والمنزع القوي، ومنهم الحضري: ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرف في القول القليل الكلفة الكثير الرونق، الرقيق الحاشية، وكلا البابين، فلهما في البلاغة الحجة البالغة، والقوة الدامغة، والقدح الفالج، والمهبع الناهج، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قدحوا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القل والكثر، وتساجلوا في النظم والنثر، ومع هذا فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر سورة منه ناهض من بلغائهم، على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارة، وإلقائه الشراشر على المعازة والمعارة، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط: إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر، وقد جرد لهم الحجة أولا، والسيف آخرا، فلم يعارضوا إلا السيف وحده، فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب، وبذلك يظهر أن في قوله تعالى: ولن تفعلوا ـ معجزة أخرى، فإنهم ما فعلوا، وما قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، قال الحافظ ابن كثير: ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ـ ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها، قال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر! إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر ـ ث1م قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب! وحيث عجز عرب ذلك العصر، فما سواهم أعجز في هذا الأمر...! وقد مضى إلى الآن أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ولم يوجد أحد من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم، أو ذو استسلام، فدل على أنه ليس من كلام البشر، بل كلام خالق القوى والقدر، أنزله تصديقا لرسوله، وتحقيقا لمقوله وهذا الوجه ـ أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حد خرج عن طوق البشر ـ كاف وحده في الإعجاز، وقد انضم إليه أوجه: منها إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر، ومنها: كونه لا يمله السمع مهما تكرر، ومنها: جمعه لعلوم لم تكن معهودة، عند العرب والعجم، ومنها: إنباؤه عن الوقائع الخالية وأحوال الأمم، والحال أن من أنزل عليه، صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ، لاستغنائه بالوحي، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى، وبذلك يعلم أن القرآن أعظم المعجزات، فإنه آية باقية مدى الدهر، يشاهدها كل حين بعين الفكر كل ذي حجر، وسواه من المعجزات انقضت بانقضاء وقتها، فلم يبق منها إلا الخبر. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة