كيف يكفر من شك في الله والشك لاإرادي؟ وهل يعاقب الله من لم يستطع التصديق؟‏

0 259

السؤال

قرأت هنا في إحدى‎ ‎الفتاوى، أن من ‏تنتابه شكوك عن الله، والإسلام، أو ما ‏جاء به الأنبياء فهو مرتد،‏ فأرجو توضيح هذا: كيف يعاقب الإنسان على ‏ما ليس بيده؟ فالشك لا إرادي، ‏إضافة إلى ذلك كيف يمكن أن يهبنا ‏الله عقولا ذات تفكير محدود، ثم ‏يعاقبنا إذا لم نستطع التصديق؟ وهل يمكن أن يعاقب الله، ويخلد ‏إنسانا في النار؛ لأنه لم يستطع التصديق؟‏ أرجو عدم تعديل السؤال بما يحيل ‏معناه لمعنى مختلف، فقد بعثت لكم ‏سابقا، وتم تغيير السؤال جذريا حتى ‏تغير الحكم معه؛ لقد شككت في أنه ‏السؤال الذي كتبته، فقد قرأت ما لم ‏أكتب، ‏وشكرا.‏

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فحكم السائلة على الشك بأنه لا ‏إرادي، حكم خاطئ! فالذي يصح ‏وصفه بذلك إنما هو الوسوسة، ‏والخواطر الشيطانية، فهي تهجم ‏على القلب بغير اختيار الإنسان، ثم ‏بعد ذلك يختلف الناس بحسب تلقيهم ‏لهذه الوساوس، فمن كرهها، ‏ونفاها، ونفر منها، لم تضره، ودل ‏رده إياها على إيمانه.

وأما الشك فهو نقيض اليقين، وهو ‏التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم ‏بصدق الرسول صلى الله عليه ‏وسلم، ولا يكذبه، ولا يجزم بوقوع ‏البعث، ولا عدم وقوعه.

والعبد لا ‏يكون مؤمنا إذا وقع في مثل هذا ‏الشك، فلا بد لحصول الإيمان أن ‏يكون العبد مصدقا تصديقا جازما ‏بمدلول شهادة: لا إله إلا الله، محمد ‏رسول الله؛ كما قال تعالى: إنما ‏المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ‏ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم ‏وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم ‏الصادقون {الحجرات:15} وقال ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‏أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول ‏الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك ‏فيهما، إلا دخل الجنة. رواه مسلم. ‏وفي حديث آخر عند مسلم أيضا: ‏‏مستيقنا بها قلبه. فاشترط في ‏دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا ‏بها قلبه، غير شاك فيها، وإذا انتفى ‏الشرط انتفى المشروط، وهذا أمر ‏في غاية الوضوح؛ فأصل الإيمان لا ‏يتحقق إلا بالتصديق الجازم، ومن لم ‏يحقق الإيمان استحق العذاب، بل ‏الخلود فيه؛ لتقصيره في أوجب ‏الواجبات، وتضييعه لأصل الأصول.

وهنا ننبه على أن الإنسان قد يطرأ ‏في نفسه نوع وسوسة يظنه شكا، ‏ولكنه ليس كذلك، بل يكون في داخله ‏مصدقا مؤمنا، وعلامة ذلك كراهته ‏لهذه الخواطر، وخوفه ونفوره منها.

‏وأما من تابع الوسوسة حتى أشربها ‏قلبه، وبلغ معها درجة الشك، ‏والارتياب فهذا كسبه، وعمله، ‏وتقصيره.

والشك نوع من أنواع ‏الكفر، وسببه في الأصل هو ‏الإعراض عن النظر في آيات الله ‏الكونية، والمتلوة؛ فإن الشاك لو ‏بحث عن الحق بدلائله ـ وهذا واجب ‏عليه ـ لظفر به، قال ابن القيم في مدارج ‏السالكين: الكفر الأكبر خمسة ‏أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار ‏وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، ‏وكفر شك، وكفر نفاق... أما كفر ‏الشك فإنه لا يجزم بصدق الرسول ‏ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا ‏يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه ‏الإعراض عن النظر في آيات صدق ‏الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، ‏فلا يسمعها، ولا يلتفت إليها، وأما مع ‏التفاته إليها، ونظره فيها فإنه لا ‏يبقى معه شك؛ لأنها مستلزمة ‏للصدق، ولا سيما بمجموعها، فإن ‏دلالتها على الصدق كدلالة الشمس ‏على النهار. اهـ.

وقال محمد أنور شاه الكشميري في ‏‏إكفار الملحدين في ضروريات ‏الدين: عدم التصديق له مراتب ‏أربع، فيحصل للكفر أيضا أقسام ‏أربعة:

الأول: كفر الجهل، وهو تكذيب ‏النبي صلى الله عليه وسلم صريحا ‏فيما علم مجيئه به مع العلم - أي في ‏زعمه الباطل - بكونه عليه السلام ‏كاذبا في دعواه.

والثاني: كفر الجحود والعناد، وهو ‏تكذيبه، مع العلم بكونه صادقا في ‏دعواه، وهو كفر أهل الكتاب؛ لقوله ‏تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب ‏يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ‏وقوله: {وجحدوا بها واستقنتها ‏أنفسهم ظلما وعلوا}، وكفر إبليس ‏من هذا القبيل.

والثالث: كفر الشك، كما كان لأكثر ‏المنافقين.

والرابع: كفر التأويل، وهو أن يحمل ‏كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ‏غير محمله، أو على التقية، ‏ومراعاة المصالح، ونحو ذلك. اهـ.

وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: ‏اتفقوا ... أو شك في التوحيد، أو في ‏النبوة، أو في محمد صلى الله عليه ‏وسلم، أو في حرف مما أتى به عليه ‏السلام، أو في شريعة أتى بها عليه ‏السلام مما نقل عنه نقل كافة، فإن ‏من جحد شيئا مما ذكرنا، أو شك في ‏شيء منه، ومات على ذلك، فإنه ‏كافر، مشرك، مخلد في النار أبدا. ‏اهـ.

وقد نقل الإجماع على ذلك أيضا ‏القاضي عياض في عدة مواضع من ‏كتاب الشفا. ‏

وأما قول السائلة: كيف يمكن أن ‏يهبنا الله عقولا ذات تفكير محدود ثم ‏يعاقبنا إذا لم نستطع التصديق) ‏فمبناه على مقدمة باطلة؛ فإن ‏عقولنا مهيأة تماما لاستقبال مسائل ‏الإيمان، واعتقاد صحتها، وسلامتها ‏من كل معارض؛ لكون ذلك حقا في ‏ذاته، ولكونه موافقا للفطر السوية، ‏ولكونه مدعوما بالدلائل والبراهين ‏الواضحة التي تقبلها العقول، وتسلم ‏لها! ولذلك نجد في القرآن عند ذكر ‏مسائل الاعتقاد ودلائلها تعقيبا ‏بالتنبيه على أن ذلك هو مقتضى ‏العقل، وأن الانصراف عنه مما ‏يطول منه العجب! وتأملي من ذلك ‏خاتمة كل فقرة من قوله تعالى: ‏‏وهو الذي أنشأ لكم السمع ‏والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ‏‏(78) وهو الذي ذرأكم في الأرض ‏وإليه تحشرون (79) وهو الذي ‏يحيي ويميت وله اختلاف الليل ‏والنهار أفلا تعقلون (80) بل قالوا ‏مثل ما قال الأولون (81) قالوا أإذا ‏متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا ‏لمبعوثون (82) لقد وعدنا نحن ‏وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا ‏أساطير الأولين (83) قل لمن ‏الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ‏‏(84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون ‏‏(85) قل من رب السماوات السبع ‏ورب العرش العظيم (86) سيقولون ‏لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ‏ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار ‏عليه إن كنتم تعلمون (88) ‏سيقولون لله قل فأنى تسحرون ‏‏(89) بل أتيناهم بالحق وإنهم ‏لكاذبون (90) ما اتخذ الله من ولد ‏وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله ‏بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ‏سبحان الله عما يصفون (91) } ‏‏[المؤمنون] . ‏
وأما قول السائلة: (هل يمكن أن ‏يعاقب الله ويخلد إنسانا لأنه لم ‏يستطع التصديق) فيحسن أن تعاد ‏صياغته فنقول: هل يمكن أن يخلد ‏الله إنسانا في النار لأنه كفر به؟ ‏والجواب: نعم؛ لأنه ليس بعد الكفر ‏ذنب، وعدم التصديق كفر بلا ريب، ‏قال تعالى في بيان خصال أهل الكفر ‏التي أوجبت لهم النار: فلا صدق ‏ولا صلى. ولكن كذب وتولى. ثم ‏ذهب إلى أهله يتمطى. أولى لك ‏فأولى. ثم أولى لك فأولى. [القيامة: ‏‏31 -35].‏
‏ قال القرطبي: قوله تعالى: (أولى ‏لك فأولى. ثم أولى لك فأولى): تهديد ‏بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي ‏فهو وعيد أربعة لأربعة، كما روي ‏أنها نزلت في أبي جهل، الجاهل ‏بربه، فقال: (فلا صدق ولا صلى. ‏ولكن كذب وتولى) أي: لا صدق ‏رسول الله، ولا وقف بين يدي ‏فصلى، ولكن كذب رسولي، وتولى ‏عن التصلية بين يدي. فترك ‏التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، ‏وترك الصلاة خصلة، والتولي عن ‏الله تعالى خصلة، فجاء الوعيد أربعة ‏مقابلة لترك الخصال الأربع. اهـ. ‏

وراجعي للفائدة الفتوى ‏رقم: 219898.‏

والله أعلم.‏
 

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة