التوفيق بين قول الله: إنه ‏كان في أهله مسرورا، وقوله: ومن أعرض عن ذكري ‏فإن له معيشة ضنكا

0 248

السؤال

عندي إشكال في قول الله تعالى: إنه ‏كان في أهله مسرورا.‏
أقصد: كلنا نعلم أن المعصية، والكفر ‏مجلبة للغم، والهم، والحزن، ‏والخوف للقلب.‏
والله يقول: ومن أعرض عن ذكري ‏فإن له معيشة ضنكا. ‏
ونعلم أن السعادة العظيمة لأهل ‏الإيمان في الدنيا، قبل الآخرة. ‏
فكيف نجمع بين ذلك؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على ‏نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ‏ومن والاه، أما بعد:‏
 

فعلى القول بأن المقصود بالمعيشة ‏الضنك أنها في الدنيا، كما قاله بعض ‏المفسرين، فإنه لا تعارض بين ‏المعيشة الضنك المتوعد بها الكافر، ‏وبين ما يجده من السرور؛ لأن ‏الكافر وإن كانت معيشته ضنكا، ‏فإنها تتخللها لحظات فرح، وسرور ‏يسير زائل، فهو يفرح، ويسر ‏بركوبه المعاصي، والشهوات.‏
‏ قال البغوي في تفسيره: {إنه كان ‏في أهله مسرورا} يعني في الدنيا، ‏باتباع هواه، وركوب شهوته. اهــ.

‏وقد دل القرآن على أنهم يفرحون ‏بالمعاصي، كما في قوله تعالى عن ‏أهل النار: ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون {غافر:75}.‏
‏ قال الشوكاني: أي بما كنتم ‏تظهرون في الدنيا من الفرح ‏بمعاصي الله، والسرور بمخالفة ‏رسله، وكتبه. اهــ.‏
‏ والمشاهد أن الكفار يسعون للفرار ‏من ضيق صدورهم، ووحشة ‏قلوبهم، ويبحثون عن السرور في ‏المعاصي، والمنكرات.
كما أن الكافر يفرح أيضا، ويسر ‏بنعم الله عليه، وهذا فرح وسرور ‏مقصود لاستدراجهم، فقد أخبرنا الله ‏تعالى أنه يستدرج أهل معصيته بما ‏يفرحهم، ويسرون به حتى يأخذهم ‏بغتة؛ كما قال تعالى: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون {الأنعام:44} .‏
والكافر أيضا يفرح ويسر بنكوله ‏عن الطاعات التي فيها جهد ومشقة ‏كالجهاد، كحال المنافقين الذي ‏تخلفوا عن رسول الله في غزوة ‏تبوك: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله {التوبة:81}. وكل هذا الفرح ‏والسرور زائل، ويسير مقابل الهم، ‏والغم الذي يغلب عليه، والذي ‏ينتظره.‏
وذهب بعض المفسرين إلى أن ‏المقصود بالمعيشة الضنك، معيشة ‏حياة البرزخ في القبر وليست معيشة ‏الدنيا، وحينئذ لا يرد الإشكال الذي ‏ذكرته أخي السائل.‏
‏ قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ‏وقوله تعالى: فإن له معيشة ضنكا. ‏فسرها غير واحد من السلف بعذاب ‏القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة ‏الدالة على عذاب القبر؛ ولهذا قال: ‏ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب ‏لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ‏قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك ‏اليوم تنسى. أي تترك في العذاب، ‏كما تركت العمل بآياتنا، فذكر عذاب ‏البرزخ، وعذاب دار البوار، ونظيره ‏قوله تعالى في حق آل فرعون: النار ‏يعرضون عليها غدوا وعشيا. فهذا ‏في البرزخ، ويوم تقوم الساعة ‏ادخلوا آل فرعون أشد العذاب فهذا ‏في القيامة الكبرى ... اهــ.‏
ويؤيد هذا التفسير ما رواه ابن حبان ‏في صحيحه، ورواه غيره، وحسنه ‏الألباني من حديث أبي هريرة ‏مرفوعا في صفة عذاب الميت في ‏قبره، وفي آخره قال رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم: فتلك المعيشة ‏الضنكة التي قال الله: فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى {طه:124}.

‏وقد جاءت أحاديث مرفوعة، وآثار ‏موقوفة عن بعض الصحابة في ‏تفسير المعيشة الضنك بعذاب القبر. ‏ذكرها الشوكاني في فتح القدير. ‏وقال عقب ذكرها: ومجموع ما ‏ذكرنا هنا، يرجح تفسير المعيشة ‏الضنكى بعذاب القبر. اهــ.‏
والله أعلم. ‏

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات