الرد المؤصل على شبهة فى حديث : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده

0 483

السؤال

سؤالي قد لا يكون في طلب فتوى.
سؤالي عن شبهة حادثة القرطاس، أو الرزية كما سماها عبد الله بن عباس -رضي الله عنها- في رواية للبخاري، رقم (2997):"حدثنا محمد، حدثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، سمع سعيد بن جبير، سمع ابن عباس يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى، قلت: يا أبا عباس ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله وجعه، فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا، لا تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما له أهجر؟ استفهموه، فقال: ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، فأمرهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة خير إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا من قول سليمان" صحيح البخاري ج3/ص1155
أريد تأصيلا للمسألة، وردا على افتراءات المبتدعة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فإن هذه القصة، وهي أمره صلى الله عليه وسلم في مرض موته للصحابة أن يأتوه ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده. قد وردت في الصحيحين، وغيرهما بروايات متعددة. منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده" فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو، والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا" قال عبيد الله: (راوي الحديث عن ابن عباس، وهو ابنه): فكان ابن عباس -رضي الله عنه- يقول: إن الرزية كل الرزية، ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم، ولغطهم. وفي رواية في الصحيحين عنه أيضا قال: ... "فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما له أهجر: استفهموه، فقال: "ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، فأمرهم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب... الحديث".
وليس في الحديث المذكور حجة لأهل البدع، والأهواء على ما يدعونه على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ بل هو من فضائله، وفقهه، وفهمه الثاقب لدين الله، ولو لم يوافق رأيه الصواب- كما وقع له في عدة مواقف معروفة- لما تنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة مهما كان الأمر.
والرأي بعدم الكتابة لم يكن رأي عمر فحسب، بل معه رجال من الصحابة، ولم يكن عمر ولا من وافقه من الصحابة ليعصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا لأنهم رأوا أن أمره صلى الله عليه وسلم في ذلك الحال لم يكن للوجوب، فحرصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرفق به.
قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: قال القرطبي وغيره: ائتوني: أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر -رضي الله عنه- مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة، مع استحضارهم قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام:38]. وقوله تعالى: (تبيانا لكل شيء) ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله. وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب؛ لما فيه من امتثال أمره، وما يتضمنه من زيادة الإيضاح، ودل أمره لهما بالقيام، على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا. انتهى.
وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: قال الإمام الحافظ، أبو بكر البيهقي، في أواخر كتابه دلائل النبوة: إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه، لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره؛ لقوله تعالى: (بلغ ما أنزل إليك من ربك) [المائدة:67]. كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وغير ذلك مما ذكره في الحديث. انتهى.
وأما ما ورد في الحديث من قول بعضهم: أهجر، فلم يرد أن القائل له عمر، بل إن سياق الكلام يدل على أن القائل غير عمر، ممن خالف عمر في الرأي.
قال ابن حجر في الفتح: والهجر بالضم، ثم السكون: الهذيان، والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم، ولا يعتد به؛ لعدم فائدته. ووقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مستحيل؛ لأنه معصوم في صحته ومرضه؛ لقوله تعالى: ( وما ينطق عن الهوى ) [النجم:3-4]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أقول في الغضب، والرضا إلا حقا". وإذا عرف ذلك، فإنما قاله من قاله منكرا على من يوقف في امتثال أمره، بإحضار الكتف، والدواة، فكأنه قال: كيف تتوقف، أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟! امتثل أمره، وأحضره ما طلب؛ فإنه لا يقول إلا الحق، قال: هذا أحسن الأجوبة. انتهى.
وليس في القصة أن عمر توهم الغلط في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيها كذلك تنقيصا لعمر -رضي الله عنه- ولا لغيره من الصحابة ممن وافقوه على رأيه، بل فيها منقبة لهم وفضل؛ لأن الحامل لهم على ذلك هو الشفقة عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمة.
قال النووي في شرح مسلم: وأما كلام عمر -رضي الله عنه- فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورا ربما عجزوا عنها؛ واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله؛ لقوله تعالى: ( ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } فعلم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه. انتهى.
وقال النووي أيضا: وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر، دليل على استصوابه.

 قال الخطابي: ولا يجوز أن يحمل قول عمر، على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال، لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع، وقرب الوفاة، مع ما اعتراه من الكرب، خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه، فتجد المنافقون بذلك سبيلا إلى الكلام في الدين، وقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف، وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش. فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة، فلا يراجعه فيه أحد منهم. انتهى.
وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين: 31412، 66300.
 والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة