مذاهب العلماء في الصلاة الوسطى

0 327

السؤال

لماذا ذهب البعض لتفسير "الصلاة الوسطى" بصلاة الفجر -مثلا- رغم ثبوت أحاديث صحيحة صرحت بأنها صلاة العصر؟
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد اختلف أهل العلم في تعيين الصلاة الوسطى اختلافا كبيرا؛ فذهب أكثرهم إلى أنها صلاة العصر للأحاديث التي أشرت إليها، وهو الراجح عندنا، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 13675، وما أحيل عليه فيها.

وذهب بعض من كبار الأئمة إلى أنها صلاة الفجر، وهو منقول عن علي في أحد قوليه، وأبي بن كعب، وابن عباس، وجابر، وأبي موسى الأشعري، وطاووس، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، ومالك في المشهور عنه، والشافعي، وغيرهم، ولهم في ذلك أدلة كثيرة لها حظها من القوة:

- منها: قول الله -جل وعلا-: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين {البقرة:238}، قالوا: والقنوت في الصبح، وذلك لأن مذهب مالك والشافعي ومن وافقهما: استحباب القنوت في صلاة الصبح، لأدلة من السنة غير الآية، كحديث أنس: ما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. فكانت عندهم هي الوسطى؛ لما جعلوا قوله: "وقوموا لله قانتين" متعلقا بالصلاة الوسطى فقط.

- ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه، ومالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم: عن أبي يونس مولى عائشة -رضي الله عنها- أنه قال: [أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، وقالت: "إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، وقوموا لله قانتين"، ثم قالت عائشة: سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-]. اهـ.

قالوا: والعطف يقتضي المغايرة، فلما عطف النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر على الصلاة الوسطى، دل مع ما تقدم من الأدلة على أن الوسطى الفجر، كما قال صلى الله عليه وسلم: من صلى البردين دخل الجنة، وقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس، فافعلوا. متفق عليهما. والصلاتان في الحديثين هما الصبح والعصر، وخصهما لتأكدهما، فلما عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى، كانت الوسطى هي الصبح. وهذه الزيادة في مصحف عائشة وإن كانت لا تثبت بها التلاوة، لمخالفتها للمتواتر، إلا أنها سنة مفسرة، يصح بيان القرآن بها، وقد صرحت بأنها سمعت ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيصح بيانا وتفسيرا من الشارع.

قال الشافعي في سنن حرملة: [فحديث عائشة أنها سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وصلاة العصر يدل على أن الوسطى ليست العصر]. اهـ. نقله البيهقي في "معرفة السنن والآثار (2834)".

ورواه مالك في "الموطأ"، والطحاوي، والبيهقي في "الكبرى" عن حفصة أيضا موقوفا، أنها كتبتها في مصحفها كذلك، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" عن ابن عباس أنه قرأها كذلك، وهما في حكم الرفع.

قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" بعد بحث طويل في الأقوال الواردة فيه: [والأصح من هذين القولين أولهما -يعني أنها الصبح-؛ لما في الموطأ والصحيحين أن عائشة وحفصة أمرتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين، وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم تسنده حفصة، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح، هذا من جهة الأثر]. اهـ.

- ومنها: قول الله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا {الإسراء:78}. فلما ذكرت وحدها تبين تأكدها، كما ذكرت الصلاة الوسطى وحدها عطفا للخاص على العام لتأكدها، كما جاء في مصنف عبد الرزاق: [عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن الصلاة الوسطى قال: "أظنها الصبح، ألا تسمع بقوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} ؟"]. اهـ.

- ومنها: أن الظهر والعصر تجمعان معا، وهما صلاتا النهار، والمغرب والعشاء تجمعان معا، وهما صلاتا الليل، وبقيت الفجر الصلاة التي بين صلاتي الليلة وصلاتي يومها، فكانت هي الوسطى، مع شدة ما يغفل عنها، فتأكد الحث عليها بخصوصها، كما جاء في تفسير الطبري: [قال ابن زيد: وقرآن الفجر -قال: صلاة الفجر: إن قرآن الفجر كان مشهودا- قال: مشهودا من الملائكة فيما يذكرون، قال: وكان علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب يقولان: الصلاة الوسطى التي حض الله عليها: صلاة الصبح. قال: وذلك أن صلاة الظهر وصلاة العصر: صلاتا النهار، والمغرب والعشاء: صلاتا الليل، وهي بينها، وهي صلاة نوم، ما نعلم صلاة يغفل عنها مثلها.]. انتهى. وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، من أئمة المفسرين.

- ومنها: أنها لا تجمع إلى غيرها لا في سفر ولا مطر ولا غيرهما، فتأكدت عن غيرها. قاله الماوردي في الحاوي.

- ومنها: أنه يجتمع في الفجر ظلمة الليل وضوء النهار، وتشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. نقله الماوردي أيضا.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس. رواه البخاري، وقوله: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا. رواه مسلم: فقد أجابوا عنه بأجوبة:

- منها: ما جاء في "المنتقى" للباجي: [يحتمل أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها وهي الظهر والعصر والمغرب، ووصفها بأنها وسطى من هذه الثلاث؛ لتأكد فضيلتها على الصلاتين اللتين معها]. اهـ. يعني لتأكد فضيلة العصر على الظهر والمغرب اللتين فاتتاه معها. وضعفه ابن العربي في "القبس".

- ومنها: أنه سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- العصر بالوسطى على سبيل التشبيه لها بالصبح لفضلها واجتماع الملائكة فيها؛ جاء في شرح صحيح البخاري لابن بطال: [إنما سمى الرسول العصر وسطى -والله أعلم- شبهها بالصبح لفضلها واجتماع الملائكة فيها في قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر)، {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78]، فالصبح وسطى بالكتاب، والعصر وسطى بالسنة؛ لأن الصبح مذكورة بالكتاب بشهود الملائكة لها، والعصر مذكورة بذلك في السنة]. اهـ.

وقد زعم بعض المتأخرين -ممن وافقوا أولئك الأئمة في هذا القول- أن لفظ "صلاة العصر" مدرج من تفسير بعض الرواة، ورده الحافظ ابن حجر في "الفتح" بحديث علي -رضي الله عنه-، وفيه: كنا نراها الصبح حتى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر.

قال الحافظ: [وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله: صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة، وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن شبهة من قال إنها الصبح قوية، لكن كونها العصر هو المعتمد]. اهـ.

فإذا سقطت دعوى الإدراج بقي التأويل الذي ذكره الباجي وغيره -كما مر- جمعا بين الروايات. وفهم الصحابي لكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- المحتمل لأكثر من معنى: اجتهاد، وقد فهم قبل ذلك باجتهاده أيضا أنها الصبح، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، كما أن قول الصحابي ليس بحجة عند هؤلاء الأئمة، فكيف إذا خالفه صحابة من فقهاء الصحابة؟!

فلهذا ترى أن أدلة هذا القول قوية لها وزنها من حيث النظر، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في كلامه الأخير.

وقد توقف بعض أهل العلم عن تعيين واحدة من الصلوات الخمس وترجيح أحد الأقوال، كابن عبد البر؛ قال في "الاستذكار" بعد ذكر الأحاديث والآثار وأقوال العلماء فيها: [كل ما ذكرنا قد قيل فيما وصفنا، والله أعلم بمراده من قوله ذلك -تبارك اسمه-، وكل واحدة من الخمس وسطى؛ لأن قبل كل واحدة منها صلاتين فهي وسطى، والمحافظة على جميعهن واجب، وبالله التوفيق]. اهـ.

والقول بأنها صلاة العصر هو الذي نرجحه، كما ذكرنا في بداية الإجابة، مع عدم القطع بذلك لقوة القول الآخر، ومن أراد التأكد من المحافظة على الصلاة الوسطى فليحافظ على الصلوات الخمس كلها، وخاصة الصبح والعصر.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة