مذهب السلف في صفة الاستهزاء والمكر وما شابهها ونسبتها لله تعالى

0 529

السؤال

يقول: إن ما يقال عن صفات الاستهزاء والمكر والخداع والكيد والنسيان والملل وما شابه ذلك، والواردة في الكتاب والسنة، أنها من صفات الله عز وجل، فإن الله تبارك وتعالى منزه عن كل صفة نقص أو مذمومة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وما يقال أنها صفة كمال في حق الله هو تحميل ما لا يحتمل، وتكلف زائد، وإلا فما معنى التنزيه إذا؟! وإنما يقال إنه من باب المقابلة والجزاء من جنس العمل، وقد وردت فقط في مواضع المقابلة، ولم ترد مستقلة منفصلة قائمة بذاتها، وعليه؛ فهي ليست صفة، وإنما فعل من أفعاله جل وعلا، فعال لما يريد، والصفة تكون لازمة ولاصقة ودائمة، والفعل إنما يكون عارضا لحالة بعينها تستدعيه وتوافقه.
فما تقولون في ذلك -جزاكم الله خير الجزاء-؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالصواب أن هذه الصفات تكون كمالا في حال دون حال، ولذلك يوصف الله بها مقيدة بحال، حيث يكون الاتصاف بها حينئذ نوعا من الكمال اللائق بالله تعالى؛ قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): قال تعالى: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله} [يوسف: 76] فنسب الله تعالى هذا الكيد إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله: {إنهم يكيدون كيدا. وأكيد كيدا} [الطارق: 15، 16] وفي قوله: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} [النمل: 50] وفي قوله: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30]. وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة، نحو: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] ، ونحو قوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] وقيل -وهو أصوب-: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له؛ فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده. اهـ.

وهذا الذي استصوبه ابن القيم هو الصواب في هذا الباب، وقد نصره بشدة، وأبان خطأ القول الأول في (الصواعق المرسلة) وفصل في ذلك، حيث قال: فالجواب: أن هذا الذي ذكرتموه مبني على أمرين: أحدهما معنوي، والآخر لفظي، فأما المعنوي: فهو أن مسمى هذه الألفاظ ومعانيها مذمومة، فلا يجوز اتصاف الرب تعالى بها. وأما اللفظي: فإنه لا تطلق عليه إلا على سبيل المقابلة فتكون مجازا، ونحن نتكلم معكم في الأمرين جميعا ... اهـ. ثم أفاض في ذلك، فراجعه في (مختصر الصواعق المرسلة ص 305 : 308).

وقال الإمام الطبري في تفسيره بعد أن فسر الاستهزاء المنسوب لله تعالى بما يليق به: إذا كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت، الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره. وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس -ثم أسند عنه في قوله تعالى :{الله يستهزئ بهم} قال: "يسخر بهم للنقمة منهم". وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: {الله يستهزئ بهم} إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة -فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه. فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبث ولعب، وذلك عن الله عز وجل منفي. قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول:{الله يستهزئ بهم} و{سخر الله منهم} و"مكر الله بهم"، وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية؟ فإن قال: "لا"، كذب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام. وإن قال: "بلى"، قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت: {الله يستهزئ بهم} و{سخر الله منهم} -"يلعب الله بهم" و"يعبث"- ولا لعب من الله ولا عبث؟ فإن قال: "نعم"! وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه. وإن قال: لا أقول: "يلعب الله بهم" ولا "يعبث"، وقد أقول: "يستهزئ بهم" و"يسخر منهم". قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جاز قيل هذا، ولم يجز قيل هذا، افترق معنياهما. فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر. اهـ.

وفي هذا جواب على قول من يفسر نحو هذه الصفات بما لا يليق بالله تعالى، ومن يحملها على معنى المقابلة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: كذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ المكر والاستهزاء والسخرية المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلما له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله، كانت عدلا، كما قال تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} فكاد له كما كادت إخوته لما قال له أبوه: {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا}، وقال تعالى: {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا} [الطارق: 15، 16]، وقال تعالى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} [النمل: 50، 51]، وقال تعالى: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم} [التوبة: 79]، ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلا يستحق هذا الاسم، كما روي عن ابن عباس أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون إليه فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون؛ قال تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} [المطففين: 34: 36] ... وقال بعضهم: استهزاؤه استدراجه لهم. وقيل: إيقاع استهزائهم، ورد خداعهم ومكرهم عليهم. وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة. وقيل: هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه. وهذا كله حق وهو استهزاء بهم حقيقة. اهـ.

وقال الشيخ/ ابن عثيمين في (القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى) في قواعد الصفات:

القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك. وقد دل على هذا: السمع والعقل والفطرة ... وإذا كانت الصفة كمالا في حال، ونقصا في حال، لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتا مطلقا، ولا تنفى عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها، لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله، أو أشد، وتكون نقصا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}، وقوله: {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا}، وقوله: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}، وقوله: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم}، وقوله: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم}. ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه، فقال تعالى: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم}، فقال: فأمكن منهم، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهي صفة ذم مطلقا. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 59862.

وأخيرا ننبه على أن صفة الملل لم تثبت في القرآن، ولم تأت في السنة في سياق الإثبات أصلا، وإنما جاءت في حديث: "إن الله لا يمل حتى تملوا". وقد سئل الشيخ/ ابن عثيمين: هل نثبت صفة الملل لله عز وجل؟ فأجاب بقوله: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: فإن الله لا يمل حتى تملوا.

فمن العلماء من قال: إن هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إن ملل المخلوق نقص، لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال، وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالا.

ومن العلماء من يقول: إن قوله: لا يمل حتى تملوا يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل فإن الله يجازيك عليه، فاعمل ما بدا لك، فإن الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا فيكون المراد بالملل لازم الملل.

ومنهم من قال: إن هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقا؛ لأن قول القائل: لا أقوم حتى تقوم، لا يستلزم قيام الثاني.

وهذا أيضا لا يمل حتى تملوا لا يستلزم ثبوت الملل لله عز وجل.

وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أن الله تعالى منزه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أن هذا الحديث دليل على الملل فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق. اهـ.

وأما النسيان: فإن الله منزه عنه لقوله تعالى: لا يضل ربي ولا ينسى {طه:52}. وأما ما جاء من نسبته إليه تعالى في مثل قوله: نسوا الله فنسيهم {التوبة:67}، فمعناه: أنه يعاملهم معاملة الناسي لهم أو هو بمعنى تركهم في العذاب؛ قال ابن كثير: وقوله: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا. أي: يعاملهم معاملة من نسيهم، لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه كما قال تعالى: في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [طه: 52]. وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة، كقوله: نسوا الله فنسيهم [التوبة: 67]، وقال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه: 126]، وقال تعالى: وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [الجاثية: 34]. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا. قال: نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا. وقال مجاهد: نتركهم في النار. وقال السدي: نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا. وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني. انتهى.

وليس صحيحا ما ذكرت من أن الصفة تكون لازمة دائمة، فهذا نوع من الصفات وهي التي يقال لها الذاتية، وهناك الصفات الاختيارية أو صفات الأفعال التي لا تلازم الذات، بل يتصف بها متى شاء، كالاستواء على العرش، والمجيء والإتيان يوم القيامة، والنزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، والضحك، والفرح، وغير ذلك. فهذه أفعال اتفق أهل السنة على إثباتها صفات لله تعالى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة