من أسَباب انحطَاطِ الهِمَمِ

0 194

السؤال

أحبكم في الله شيوخنا على نفعي ونفع المسلمين.
كلما هممت بعمل لا أعرف كيف يدخل الشيطان، فيوسوس لي بالفشل، وبعدم أهمية العمل؛ فتنقلب نفسيتي، لا أعرف كيف! فما السبيل للتخلص منه؟
ولدي سؤال آخر: أحفظ القرآن، وأحفظ الأحاديث من كتاب رياض الصالحين، بالإضافة إلى دراستي في المدرسة المختلطة، ولا يوجد بديل لها – للأسف- وأهلي لا يقبلون أن أترك التعلم، وأدرس في الصف الأول الثانوي، وأحاول أن أحسن من دراستي، فهل حفظ القرآن مع الأحاديث، والدراسة أمر جيد، أم علي أن أقرأ كتبا أخرى؟ جزاكم الله خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فهذه الوساوس من أعظم أسلحة الشيطان التي يثبط بها المسلم عن قيامه بأعمال الخير، ويصرفه بها إلى البطالة والدناءة، فتصغر همته عن المطالب العالية، قال الجاحظ في تهذيب الأخلاق: صغر الهمة: هو ضعف النفس عن طلب المراتب العالية، وقصور الأمل عن بلوغ الغايات، واستكثار اليسير من الفضائل، واستعظام القليل من العطايا، والاعتداد به، والرضا بأوساط الأمور وأصاغرها. انتهى.

وضعف النفس وصغر همتها، بل انحطاطها، له أسباب كثيرة، قد ذكر جملة منها الشيخ الدكتور محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم في كتابه (علو الهمة)، فذكر من أسباب انحطاط الهمم:
- الوهن، وهو -كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "حب الدنيا، وكراهية الموت".

- أما حب الدنيا: فرأس كل خطيئة، كما في الحكمة المشهورة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب الاستئسار للشهوات، والانغماس في الترف، والتنافس على دار الغرور.

ومنها: الفتور، فعن عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك، فقد هلك".

ومنها: إهدار الوقت الثمين في الزيارات، والسمر، وفضول المباحات: قال صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ".

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع.

ومنها: العجز والكسل، وهما العائقان اللذان أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعوذ بالله سبحانه منهما، وقد يعذر العاجز لعدم قدرته، بخلاف الكسول الذي يتثاقل ويتراخى مما ينبغي مع القدرة، قال تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}.

ومنها: الغفلة، وشجرة الغفلة تسقى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها.

هل علمتم أمة في جهلها ... ظهرت في المجد حسناء الرداء؟

قال عمر رضي الله عنه: "الراحة للرجال غفلة".

ومنها: التسويف، والتمني: وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير، إما يعيقها بـ "سوف" حتى يفجأه الموت، فيقول: {رب لولا أخرتني إلى أجل قريب}، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم.

ومنها: ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا، الذي كلما هممت بالنهوض جذبك إليها، وغرك قائلا: "أمامك ليل طويل فارقد". عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة".

فحذار من مجالسة المثبطين من أهل التبطل والتعطل، واللهو والعبث، فإن "طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري، وليس إعداء الجليس جليسه بمقاله وفعاله فقط، بل بالنظر إليه! والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقا مناسبة لخلق المنظور إليه ... ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية؟! ".

ومنها: العشق؛ لأن صاحبه يحصر همته في حصول معشوقه، فيلهيه عن حب الله ورسوله {بئس للظالمين بدلا}، إن عالي الهمة لا يستأسر للعشق الذي "يمنع القرار، ويسلب المنام، ويوله العقل، ويحدث الجنون، وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله، وعرضه، ونفسه، وأتلف دينه، ودنياه. ومنها: الانحراف في فهم العقيدة، لا سيما مسألة القضاء والقدر، وعدم تحقيق التوكل على الله سبحانه وتعالى، وبدعة الإرجاء.

ومنها: الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم، نظرا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن لأهلك عليك حقا"، مع الغفلة عن قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن لربك عليك حقا"، وقوله: "فأعط كل ذي حق حقه"، وقد عد القرآن الكريم الأهل والأولاد أعداء للمؤمن إذا حالوا بينه وبين طاعة الله عز وجل، روى ابن جرير عن عطاء بن يسار في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}. قال: (نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه، ورققوه، فقالوا: "إلى من تدعنا؟ "، فيرق، ويقيم، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}.

ومنها: المناهج التربوية، والتعليمية الهدامة التي تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتخرب العقول، وتنشئ الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات، والشعور بالدونية.

ومنها: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام؛ مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، وسنن الله عز وجل في خلقه، كما ينتج عنه استطالة الطريق، فيضعف السير إلى الله عز وجل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعزي أصحابه المضطهدين في مكة بتبشيرهم بأن المستقبل للإسلام، وبأن العاقبة للمتقين. انتهى باختصار.

ورحم الله ابن القيم حيث قال: لو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون، فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته، وشرف النفس ونبلها وكبرها. وأصل الشر خستها، ودناءتها، وصغرها، قال تعالى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. أي أفلح من كبرها، وكثرها، ونماها بطاعة الله، وخاب من صغرها، وحقرها بمعاصي الله. فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة والخسيسة، بالضد من ذلك. فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها، وهذا معنى قوله تعالى: قل كل يعمل على شاكلته. أي على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه، وطبيعته. وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه، وعادته التي ألفها وجبل عليها. فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي، والإعراض عن المنعم. والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم، ومحبته، والثناء عليه، والتودد إليه، والحياء منه، والمراقبة له، وتعظيمه، وإجلاله. انتهى.
وأما عن كيفية حفظ القرآن والسنة، والتوفيق بين ذلك، وبين الدارسة، فراجع الفتاوى التالية أرقامها: 3913، 10337، 96386، 114101، 301906، 326086.

ويرجى مراجعة هاتين الفتويين: 48668، 283504.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة