الطريق إلى حفظ الخواطر، وبلوغ منزلة الرضا

0 91

السؤال

أنا فتاة في 26 من عمري، أقيم بمكة، وطالبة علم شرعي.
أعاني منذ فترة طويلة من عدة أمور أتعبتني كثيرا. كثيرا ما أسرح وأنسج القصص خاصة في أمر الزواج والذرية. الشيء المخيف أنها تتدرج لأصبح أفكر بالجنس. يأخذ مني ساعات طويلة. أحاول كثيرا الخشوع في الصلاة، والثبات على الذكر، وألح بالدعاء. قليلا جدا جدا ما أخشع. أشعر أن السبب هو السرحان (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) وعندما أخشع في صلاتي، أو أعمل خيرا يزيد علي السرح كثيرا. كأني أختم العمل الصالح بمعصية. هل سرحاني معصية؟ هل هذا يعتبر من الإصرار على المعصية، ودليلا على ضعف الإيمان؟ أشعر أن إيماني هش. الخلوة والصلاة دليل ومعيار للإيمان. وأنا مفرطة بالسرحان فيهما. هل سرحاني دليل على أن همي هو الدنيا؟
في أوقات إجابة الدعاء كالفترة بين الأذان والإقامة، ونزول المطر يزيد أيضا. وأتعب وأنا أدعو الله، أشعر بصداع وسرحان.
هل يضاعف علي الإثم؛ لأني أسكن مكة وطالبة علم شرعي؟ لا أستطيع أن أفكر بعظمة وجلال الله، أشعر أن هنالك حاجزا كبيرا يمنعني. وأنا في الصلاة أرى أنوارا لونها أبيض. عرفت فيما بعد أنها من تلبيس إبليس. لكن ما زالت تحضرني، وأشعر ببرودة في صدري، كأنه ثلج في صدري، أعتقد أيضا أنه من تلبيس إبليس.
تأتيني أفكار ومناظر قذرة، لا أشعر أن عندي صدقا وإخلاصا.
نحن في إجازة، وأشعر بفتور كبير في طلب العلم الشرعي والعبادة. والأيام العشر مقبلة. أشعر أني من أجهل الناس بالله عز وجل، وأني بعيدة عن الله. لدي صحبة صالحة. أتواصل معها عن طريق برامج التواصل الاجتماعي لكن (إذا ابتليتم فاستتروا) هل قول الله تعالى (إن مع العسر يسرا ) يدخل فيه الهداية والعلم بالله؟
كيف أرضي الله عني وأجاهد هذه الأفكار؟ لا أريد أن يكون همي الدنيا والزواج، هذا رزق، والرزق بيد الله تعالى. كيف أحقق مقام الرضا لله. أشعر أني غير موفقة للعمل الصالح. تمر الأيام ولا أنجز فيها شيئا يرضي الله، ويثقل الميزان (وكان أمره فرطا) .نحن في جد لا هزل فيه. والعمر يمضي، وسنسأل عن كل ساعة. يغدق علي ربي بنعمه وفضله، وأبارزه بالمعاصي. يظن الناس أني ملتزمة، وباطني عكس ذلك، لا يصدق قولي فعلي، ولا باطني ظاهري.
ماذا أفعل؟ أفيدوني يرحمكم الله.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فشرود الذهن ونقص الخشوع في الصلاة ليس معصية عند جماهير أهل العلم، لكن الخشوع وحضور القلب هو روح الصلاة، وسبب لنيل عظيم الأجر، وصلاح القلب، وانشراح الصدر، فاحرصي على مجاهدة نفسك، والاستعانة بالله تعالى على تحصيل أسباب الخشوع في الصلاة، والتي بيناها في الفتوى رقم : 124712.
واستدعاء التخيلات الجنسية والتلذذ بها غير جائز، أما إذا غلبت تلك التخيلات على النفس دون استدعاء فلا مؤاخذة بها، كما بينا ذلك في الفتوى رقم : 160587.
لكن ينبغي مدافعة هذه التخيلات، وعدم الاسترسال معها، حتى لا تؤدي إلى فساد وفتنة، قال ابن القيم –رحمه الله- في طريق الهجرتين : قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال : وهي شيئان:  أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء؛ لأنها هي بذر الشيطان والنفس في أرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال، ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم ... فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟ قلت: أسباب عدة:

أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك.

الثاني: حياؤك منه.

الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلقه لمعرفته ومحبته.

الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.

الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.

السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويستعر شرارها، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله، فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.

السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.

الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلا، بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه، وأخرجه واستوطن مكانه. فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة، فأخرجتها واستوطنت مكانها، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه.

التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا، فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد.

العاشر: أن تلك الخواطر هي وادى الحمقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي ...

* الفصل الثاني: صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى ربه تعالى، وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أخرى وعلوما أخر وولد ولادة أخرى ... اهـ.
واعلمي أن الفتور عن الطاعات في بعض الأحيان لا يسلم منه أحد إلا من عصمه الله، والإيمان يزيد وينقص، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل. رواه البزار.
وعلاج الفتور أن يوقن العبد أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، ويعلم أنه لا يقدر على فعل طاعة أو ترك معصية إلا أن يمن الله عليه بالإعانة والتوفيق، فيتضرع إلى الله ويستعين به.

ومما يعين العبد على تحقيق مقام الرضا أن يعلم أن أقدار الله تجري بحكمته البالغة ورحمته الواسعة، فهو سبحانه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وأعلم بمصالحنا من أنفسنا، قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
قال ابن القيم : "والعبد لجهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ذخر له، بل هو مولع بحب العاجل، وإن كان دنيئا، وبقلة الرغبة في الآجل، وإن كان عليا" الفوائد - (1 / 57)
فعليك بالاعتصام بالله والتضرع إليه، والحرص على الرفقة الصالحة والبيئة الإيمانية، وكثرة ذكر الموت وما بعده، والتفكر في آيات الله، والتعرف على نعمه وآلائه، والتنويع في العبادات والأذكار، والترويح عن النفس في الحدود المشروعة، مع الإلحاح في الدعاء فإنه من أعظم الأسباب النافعة.
وللفائدة ننصحك بالتواصل مع قسم الاستشارات بموقعنا .

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات