التعبير المفيد لشدة الحب جائز إذا لم يتجاوز حدود الشرع

0 112

السؤال

ما حكم استعمال بعض الكلمات، كقول: "أحبك بلا حدود" من باب المبالغة، دون قصد تجاوز الحدود الدينية؟ وكذلك كثيرا ما نستعمل أسلوب الاستثناء في جمل، كقول: من غيرك يا بلادي، من سيشغل بالي. بمن سأهتم، من سيهتم بي، أو قول: قلبي "كله" لك، أو قول: أحبك أكثر من الكل، أو أنت أحب ما إلى قلبي مع العلم أن قلب المسلم متعلق أولا برب العرش العظيم: الله سبحانه وتعالى، ثم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم باقي الناس، إلا أننا قد نبالغ في التعبير عن حبنا، لكن ما بين قوسين أمر ثابت، وما حكم وصف شيء بـ "كامل" -والكمال لله وحده، لا شريك له- كقول: "فستان كامل جماله"، وغير ذلك، دون قصد الكمال المطلق الذي هو لله وحده؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فإن التعبير المفيد لشدة الحب، جائز، إذا كان ذلك لم يتجاوز حدود الشرع، بأن لم يكن الخطاب بين أجنبيين تخشى عليهما الفتنة؛ وذلك لأن شدة الحب في الله، أمر محمود، ويدل لذلك كون أعظم المتحابين أجرا هو أشدهما حبا لصاحبه، كما في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تحاب رجلان في الله، إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل، أشدهما حبا لصاحبه. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، وغيرهما، وصححه الألباني.

وللزوج أن يشعر زوجته بحبه إياها، ويعبر لها عن ذلك بمثل هذه العبارة، ولو لم يكن ذلك على حقيقته، ومثله الزوجة في ذلك؛ لأن هذا من جملة الكذب المأذون فيه بين الزوجين، قال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما كذبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الود، والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه، أو عليها، أو أخذ ما ليس له، أو لها، فهو حرام بإجماع المسلمين، والله أعلم. اهـ.

ويجوز كذلك حب الوطن أكثر من الأوطان الأخرى، فقد استدل العلماء لمشروعية حب الوطن بحب الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة ومكة، فقد روى الحاكم في المستدرك، والطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمكة: ما أطيبك، وأحبك إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك، ما سكنت غيرك. اهـ.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من سفره، ورأى أحدا من بعيد قال: هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا، ونحبه. رواه البخاري. وروى البخاري عن أنس -رضي الله عنه- يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته، وإن كانت دابة حركها.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه هذا الحديث: وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن، والحنين إليه. انتهى.

  وأما إن تجاوز الحب حدود الشرع، بأن أحب شخصا، أو بلدا ما، حبا أكثر من حب الله تعالى، أو مساويا له، فإن هذا محرم، وقد قال الله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب {البقرة:165}، وقال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين {التوبة:24}.

قال البيهقي في الشعب: أبان بهذا، أن حب الله ورسوله فرض. وبمثل ذلك جاءت السنة, ففي الحديث: ثلاث من كن فيه وجد منهن طعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما... الحديث متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه. رواه الترمذي، والحاكم، وغيرهما.

وقال القرطبي في التفسير: وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. اهـ.

وقال البغوي في تفسير آية البقرة: قوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله {البقرة:165} أي: أصناما يعبدونها يحبونهم كحب الله، أي: يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله، وقال الزجاج: يحبون الأصنام كما يحبون الله؛ لأنهم أشركوها مع الله، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة. والذين آمنوا أشد حبا لله، أي: أثبت وأدوم على حبه؛ لأنهم لا يختارون على الله ما سواه.

والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه، طرحوا الأول، واختاروا الثاني ... اهـ.

وينبغي للمسلم أن يكون حريصا على قوة العلاقة مع الله، وأن يتعرف إليه، ويكثر من النظر في أسمائه، وصفاته، وآياته، وأفضاله، وأنعمه، فبذلك يعظم الله في قلبه، ويزداد حبا له وفرحا، وأنسا وتعلقا به، فقد قال ابن القيم في طريق الهجرتين: من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم، والغموم، والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدا؛ ولهذا قال حكاية عن نبيه أنه قال لصاحبه أبي بكر: "لا تحزن إن الله معنا", فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له والحزن، وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له، فعلى أي شيء يحزن، ومن فاته الله، فبأي شيء يفرح، قال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا", فالفرح بفضله ورحمته، تبع للفرح به سبحانه، فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به من حبيب، أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك، يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة, فيظهر سرورها في قلبه, ونضرتها في وجهه, فيصير له حال من حال أهل الجنة، حيث لقاهم الله نضرة وسرورا، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذي شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم. انتهى.

ونكتفي بجواب سؤالك الأول، ونرحب بالباقي في رسالة أخرى، التزاما منا بنظام الموقع، من أن على السائل الاكتفاء بكتابة سؤال واحد فقط، وأن السؤال المتضمن عدة أسئلة، يجاب السائل عن الأول منها فحسب.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات