شبهات حول ثلاث آيات والرد عليها

0 280

السؤال

في قوله تعالى في سورة المائدة: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم {المائدة: 117}هنا شهيدا = رقيبا... وكنت عليهم رقيبا مادمت فيهم........ كنت أنت الرقيب عليهم، ثم يقول تعالى في سورة النساء: ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا {النساء:159} يكون عليهم شهيدا= يكون عليهم رقيبا... رقابة المسيح بعد يوم الحساب تعني بمنتهى البساطة أن هناك تكليفا بعد يوم القيامة... وليس كما أوهمونا من سقوط التكليف بعد يوم الحساب... وعدم إسقاط التكليف يؤيده أيضا قوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا........ وقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ـ فلم يقل: فمن عمل مثقال ذرة خيرا سيره ومن عمل مثقال شرا سيره....فهل هناك تكليف بعد يوم القيامة؟ أم سيسقط التكليف؟.
وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فإننا قبل أن نجيبك على إشكالك نحذرك من هذا المسلك الذي تسلكه مع كتاب الله تعالى، وهذا هو السؤال السابع الذي تورده بنفس الطريقة، فتارة تقول عن كتاب الله تعالى: لماذا قال.. وتارة تقول: أليس من الأنسب أن يقول: وتارة تقول: ينبغي أن يقول: وأخرى قلت فيها: لماذا عدل في الآية من الأنسب إلى الأقل مناسبة؟!! ثم تختم أسئلتك بقولك: انظر في مصادرك ومراجعك ولا تتعجل ولا تتسرع...!!! وكأنك تأتي بمعضلات لا يقوم لها قائم، وإننا نعجب أشد العجب من جرأتك على كتاب الله تعالى مع هذا المستوى الضعيف في الفهم والعلم باللغة وعلومها:

وكم من عائب قولا صحيحا     وآفته من الفهم السقيم.
وصنيعك هذا يذكرنا بصنيع صبيغ وقصته مع عمر ـ رضي الله عنه ـ وقصته رواها الدارمي عن سليمان بن يسار: أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضربا حتى دمى رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي ـ صحيح لغيره.

العراجين: جمع العرجون وهو العود الأصفر الذى فيه الشماريخ إذا يبس واعوج، وفي سنن الدارمي عن نافع مولى عبد الله: أن صبيغا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ قال: في الرحل، قال عمر: أبصر أيكون ذهب فتصيبك منى به العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة، فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له، قال فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برأت، فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري: أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر: أن قد حسنت هيئته، فكتب عمر أن ائذن للناس بمجالسته.
فاتق الله أيها السائل، ولا تضرب كتاب الله بعضه ببعض، وإن كنت في شك منه، فاسأل ربك أن يهديك الصراط المستقيم.

وأما جواب سؤالك: فنقول: ليس هناك تكليف يوم القيامة إلا ما ورد من اختبار بعض أصناف من الناس يمتحنون يوم القيامة، وقد ذكرناهم في الفتوى رقم: 48406.
وليس معنى: شهيدا ـ في قوله تعالى في سورة النساء:... ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا... ليس معناه رقيبا كما زعمت، وبنيت عليه قيام التكليف في ذلك اليوم، وإنما معناه يشهد على أهل الكتاب بأنه بلغهم الرسالة، ويشهد عليهم بما فعلوه من خير وشر في حياته، قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: والشهيد: الشاهد يشهد بأنه بلغ لهم دعوة ربهم فأعرضوا، وبأن النصارى بدلوا. اهـ.

كما أخبر الله في السورة نفسها أنه يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم شهيدا على أمته، قال تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا {النساء: 41}.

وفي سورة النحل: ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء {النحل: 89}.

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم.. إلخ.
والرقيب أعم من الشهيد، فالرقيب يشهد ويحصي ويحفظ، قال تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ـ قال ابن عطية في المحرر الوجيز في تفسير قوله تعالى: إن الله كان عليكم رقيبا ـ قال: الرقيب بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل. اهـ.
ولهذا لما عبر عيسى ـ عليه السلام ـ عن شهادته على قومه مدة حياته أتى بلفظ: الشهيد ـ ولما عبر عن شهادة الله عليهم أتى بلفظ: الرقيب ـ كما في الآية التي ذكرتها في سورة المائدة: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم... قال ابن جرير الطبري في تفسيرها: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم، فلما قبضتني إليك كنت أنت الرقيب عليهم.

يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم.
وقال الشوكاني: أصل المراقبة: المراعاة أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم. اهــ.

وقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره {الزلزلة: 7ـ 8} المقصود بقوله: يعمل ـ أي في الدنيا، فمن يعمل في الدنيا خيرا يره في الآخرة، ومن يعمل في الدنيا شرا يره في الآخرة  ويدل عليه قوله في نفس السورة قبل هذا: يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ـ قال في أضواء البيان: فهم إنما يرون في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل... في ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل، كما في قوله: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه {النبأ:40} وقوله: ووجدوا ما عملوا حاضرا {الكهف:49} ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شرا يره في الآخرة. اهـ.
ومثله قوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين {الأنبياء:47}.

ليس فيه أن هناك تكليفا يوم القيامة، وإنما إخبار بأنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة، فتوزن أعمالهم التي عملوها في الدنيا وزنا في غاية العدالة والإنصاف: فلا يظلم الله أحدا شيئا، وأن عمله من الخير والشر، وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل، فإن الله يأتي به.

والله أعلم. 

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات