كيفية الوصول للقلب السليم المحب الخاشع لله

0 75

السؤال

بداية أشكركم على هذا الموقع الرائع، جعله الله في ميزان حسناتكم.
أنا فتاة أبلغ 19 عاما، بفضل الله أحافظ على الصلاة، ولكن أفتقد الخشوع فيها.
مشكلتي هي تقصيري الشديد في العبادات القلبية.
فأنا أبتعد عن المعاصي، وأؤدي العبادات خوفا من العذاب فقط، ولا أجد في قلبي المحبة والشوق لله، ولا أجد لذة في العبادة، ودائما أفكر فيما سيحدث لي، وهنا ننتقل إلى عبادة أخرى مقصرة فيها، هي التوكل على الله.
كما أعرف أن هناك من يجاهد نفسه ليترك معصية، أو ليخشع في الصلاة مثلا، إنما يجاهد نفسه في الدعاء والعبادات القلبية، هذا هو حالي للأسف الشديد.
أنا مؤمنة جدا بوجود الله، وأعلم أنه أرحم الراحمين، وأعلم أن كل ما أنا فيه بسبب تقصيري، ولا أدري كيف أحقق الرجاء، وحسن الظن بالله.
وسؤالي هو: كيف أصل لقلب سليم محب، وخاشع لله؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد: 

فزادك الله حرصا على الخير ورغبة فيه، ثم الذي يعينك على تحصيل حسن الظن بالله، والتوكل عليه، ويساعدك في تحصيل سلامة القلب أمور، من أهمها:

إدمان الفكرة في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإذا استشعرت اسمه الوكيل، لجأت بكليتك إليه، واعتمدت في جميع أمورك عليه، ولم تخشي غيره، ولم يكن لك رجاء في سواه، وكذا اسمه الكافي، واسمه الحسيب.

وإذا استحضرت صفات رحمته وعفوه، ومغفرته -سبحانه- حسن ظنك به، وأقبلت بقلبك عليه محبة له، راجية فضله الواسع، ملتمسة رحمته التي وسعت كل شيء، وهكذا، فالفكرة في أسماء الرب تعالى وصفاته، من أعظم ما يربط القلوب بالله تعالى، ويعلقها به، ويزيدها محبة له، وإخباتا وتوكلا، وإنابة وخشوعا.

ومن أعظم ما يعين على ذلك تدبر القرآن العزيز، فإنه من فاتحته إلى خاتمته معرف بالرب تعالى، دال عليه، موصل للقلوب إليه، معرف لها به.

وقد بين العلامة ابن القيم -رحمه الله- أثر تدبر القرآن، ومطالعة الأسماء والصفات في صلاح القلب، في كلام نفيس نسوقه بطوله؛ لحسنه، ونفاسته.

قال عليه الرحمة: فصل: القرآن كلام الله -وقد تجلى الله فيه لعباده- وصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء.

وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله، ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغا إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به، أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل:

يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل

فتبقى المحبة له طبعا لا تكلفا.

وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر، واللطف والإحسان، انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه وسار إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل، غلق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصر في البذر.

وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب، والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب، واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة رعوناتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.

وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي، والعهد والوصية، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وشرع الشرائع، انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره، والتبليغ لها والتواصي بها، وذكرها وتذكرها والتصديق بالخبر والامتثال للطلب والاجتناب للنهي.

وإذا تجلى بصفة السمع والبصر والعلم، انبعث من العبد قوة الحياء، فيستحي ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع، غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.

وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه وحمايته لهم، ومعيته الخاصة لهم انبعثت من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به، وما في كل ما يجريه على عبده ويقيمه مما يرضى به هو سبحانه.

والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله به، ويختاره له.

وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء، أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له فتعلوه السكينة والوقار في قلبه، ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدته.

وجماع ذلك أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه.

ويوجب له شهود صفات الربوبية: التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.

وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه، ورحمته في قيوميته، وعدله في انتقام،ه وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه.

ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه، وغضبه وحلمه في إمهاله وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.

وأنت إذا تدبرت القرآن، وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين، وأفكار المتكلفين أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده يأمر وينهي، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع، ويسمع ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع زهد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات