حكم من لم يهاجر من أرض الكفر وأُكرِه على الكفر

0 151

السؤال

ما حكم من بقي في أرض الكفر ولم يهاجر، ثم أكرهه الكفار على الكفر.
هل يعذر بالإكراه أم لا يعذر، علما أنه كان يتوقع أن يكرهه الكفار على الكفر، ولكنه لم يكن متأكدا من ذلك؟
وما حكم من سافر إلى أرض الكفر، ثم أكرهه الكفار هناك على الكفر، علما أنه سافر لغرض آخر كالمعيشة مثلا، وكان يتوقع أن يكرهه الكفار على الكفر، ولم يكن متأكدا.
فما الحكم في كلتا الحالتين؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ندري كيف يكرهه الكفار على الكفر! ونخشى أن يحكم السائل على فعل، أو قول بأنه كفر، ولا يكون كذلك، فهناك من المعاصي الكبار ما تستنكره النفس، ويستعظمه القلب، ولكنه لا يبلغ درجة الكفر المخرج من الملة!
وعلى أية حال، فالإكراه إذا تحقق بشروطه: عذر معتبر. والهجرة من البلد الذي تخشى فيه الفتنة في الدين، حتم واجب، وتركها مع القدرة عليها كبيرة عظيمة، ومنكر فظيع، ولكنه لا يبلغ الكفر الأكبر، على القول الأظهر! ومثال لذلك من نزل فيهم قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا [النساء: 97 - 99].

فقد أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم فيرمى، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم). اهـ.
فسماهم ابن عباس -رضي الله عنهما- مسلمين، برغم هذا الوعيد الشديد!

ولذلك قال ابن عطية في المحرر الوجيز: وهذه المقالة -يعني قوله تعالى: {فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين}- إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء. وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين، وإلا فلو ماتوا كافرين، لم يقل لهم شيء من هذا. اهـ.
وقال القرطبي: ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين، ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين، لم يقل لهم شيء من هذا. اهـ.
وقال السعدي: هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات ... {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه، وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع. اهـ.
وقريب من ذلك أيضا ما حدث للمسلمين في الأندلس، لما استولى عليها النصارى، فبقي بعضهم تحت حكم النصارى ولم يهاجر، بل وشاركهم في الإغارة على بلاد المسلمين؛ خوفا من قتلهم إياه إذا امتنع.

جاء في كتاب الونشريسي: (أسنى المتاجر، في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر) في بيان رأي القاضي الفقيه أبي عبد الله ابن الحاج في المسلمين المتخلفين في برشلونه، الذين يشتركون مع النصارى في الإغارة على المسلمين.

قال: وسألته عمن تخلف من أهل برشلونه من المسلمين عن الارتحال عنها بعد السنة التي أجلت لهم يوم فتحت، في ارتحالهم، فأغار على المسلمين تعوذا مما يخاف من القتل إن ظفر به.

فقال: ما أراه إلا بمنزلة المحارب الذي يتلصص بدار الإسلام من المسلمين، وذلك أنه مقيم على دين الإسلام، فإن أصيب فأمره إلى الامام، يحكم فيه بمثل ما يحكم في أهل الفساد والحرابة، وأما في ماله، فلا أراه يحل لأحد أصابه. اهـ.
وقال الونشريسي أيضا: وسئل الامام أبو عبد الله المازري -رحمه الله- في زمانه عن أحكام تأتي من صقلية من عند قاضيها، أو شهود عدول هل يقبل ذلك منهم أم لا؟ مع أنها ضرورة، ولا تدرى إقامتهم هناك تحت أهل الكفر هل هي اضطرار أو اختيار؟

فأجاب: القادح في هذا وجهان، الأول: يشتمل على القاضي المقيم بأرض النصارى مرتكب لمعصية كبيرة، وهو معاقب بالعذاب الشديد، إلا أنه غير مخلد في النار ... اهـ.
وقال في آخر كتابه: هذا ما يتعلق بهم من الأحكام الدنياوية، وأما الأخروية المتعلقة بمن قطع عمره وأفنى شيبه وشبابه في مساكنتهم وتوليهم، ولم يهاجر، أو هاجر ثم راجع وطن الكفر، وأصر على ارتكاب هذه المعصية الكبيرة إلى حين وفاته والعياذ بالله، فالذي عليه أهل السنة، وجمهور الأئمة أنهم معاقبون بالعذاب الشديد إلا أنهم غير مخلدين في العذاب ... والدليل على ذلك قوله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وقوله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}، وقوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} إلا أن قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقوله عليه السلام: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" وقوله عليه السلام: "فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم" شديد جدا عليهم. اهـ.
وجاء في كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) أن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ سئل: عمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم؟

فصوب للسائل سؤاله وقال: أظن مقصودك: من لم يظهر العداوة، ولم يفارق؛ ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة. فالأول: يعذر به مع العجز والخوف؛ لقوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} [سورة آل عمران آية: 28]. والثاني: لا بد منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن؛ فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله. فإذا كان أصل العداوة في قلبه، فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الآية} لكنه لا يكفر؛ لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير. اهـ.

وأما بخصوص من كان يتوقع، أو يغلب على ظنه أن الكفار سيكرهونه على الكفر، ومع ذلك ذهب إليهم وأقام فيهم، فأمره مشكل! ولكن الأصل على أية حال هو أن من فعل الكفر أو قاله تحت إكراه معتبر، فهو معذور؛ لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106].

ويبقى إثم ترك الهجرة عند القدرة عليها، وهو شديد كما قدمنا.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة