ما الحكمة من قوله تعالى: "يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ"؟

0 1963

السؤال

قال عز وجل: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما) الأحزاب(59).
القرآن الكريم هو كلام الله المعجز بلا شك.
1- فما الإعجاز اللغوي في قوله: (يدنين عليهن من جلابيبهن)؟ لماذا لم يقل الله: (يغطين أنفسهن بجلابيبهن)، أو (يسترن أنفسهن بجلابيبهن)، أو (يتجلببن)؟
2- ما هو الإعجاز اللغوي في لفظ: (من جلابيبهن)؟ لماذا لم يقل الله: (يدنين عليهن جلابيبهن) بدون لفظ: (من)؟
3- ما الإعجاز اللغوي في قوله: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)؟ ولماذا لم يقل الله: (لكي يعرفن فلا يؤذين)؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلعل من أقرب ما يقال في الحكمة من التعبير بالإدناء: إن الآية ليس فيها الأمر بمجرد ستر العورة، أو بمجرد ارتداء الجلباب، بل فيها أمر زائد على هذا، وهو إدناء شيء من الجلباب على الوجه لستره، قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في كتابه: (إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب): هذه الآية الكريمة تستدعي التأمل، وإدارة الفكر من وجوه:

 - الأول: أن الله تعالى لم يقل: "يتجلببن" وإنما قال: {يدنين}، ومعلوم أن الإدناء ليس هو نفس التجلبب، بل هو أمر زائد على التجلبب، فلا يحصل الامتثال بهذا الأمر بمجرد التجلبب، بل لا بد من الإتيان بقدر زائد عليه، يصح أن يطلق عليه كلمة الإدناء.

- الثاني: أن الإدناء لا يطلق على لبس الثياب، ثم إنه لا يتعدى بعلى، بل يتعدى باللام، ومن، وإلى. فتعديته هنا بعلى لتضمينه معنى فعل آخر، وهو الإرخاء، والإرخاء يكون من فوق، فالمعنى: يرخين شيئا من جلابيبهن من فوق رؤوسهن على وجوههن. أما قولنا: على وجوههن، فلأن الجلباب لا بد أن يقع على عضو عند الإرخاء، ومعلوم بالبداهة أن ذلك العضو لا يكون إلا الوجه، وأما أن يكون على الجبهة فقط، فمعلوم أن هذا القدر القليل من عطف الثوب لا يسمى إرخاء، ويؤيد هذا المعنى - أي: أن المراد بالإدناء هو الإرخاء، لا مجرد التجلبب - أيضا، أن الله أتى بكلمة: (من) التبعيضية قبل الجلابيب، فمقتضاه أن الإدناء يكون بجزء من الجلباب، مع أن التجلبب يطلق على مجموع هيئة لبسه.

- الثالث: أن الضمير في (يدنين) يرجع إلى ثلاث طوائف جمعاء: إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى بناته، وإلى نساء المؤمنين، وقد أجمعوا على أن ستر الوجه والكفين كان واجبا على أزواجه صلى الله عليه وسلم، فإذا دل هذا الفعل على وجوب ستر الوجه والكفين في حق طائفة منها؛ فلم لا يدل نفس ذلك الفعل على نفس ذلك الوجوب في حق طائفتين أخريين؟!

- الرابع: أن الله أمر أمهات المؤمنين بالتستر الكامل في آية الحجاب، ولم يستثن عضوا من عضو، فلو كان المراد بإدناء الجلباب مجرد تغطية الرأس من غير أن يشمل الوجه والكفين؛ لكان كلامه تعالى عبثا في حق أمهات المؤمنين؛ إذ من العجائب أن يؤمر أولا بالتستر الكامل حتى الوجه والكفين، ثم يؤمر بتغطية الرأس فقط، مع بقاء الآية الأولى محكمة غير منسوخة.

ويا ليت شعري، أي حاجة مست إلى الأمر بستر الرأس، بعد الأمر بستر جميع الأعضاء؟! ... اهـ.

 وأول الكلام قد أشار إليه ابن العربي في (أحكام القرآن) فقال: الستر والحجاب مما تقدم بيانه، واستقرت معرفته، وجاءت هذه الزيادة عليه، واقترنت به القرينة التي بعده، وهي مما تبينه، وهو قوله تعالى: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} [الأحزاب: 59]. اهـ.

وقال الشيخ محمد إسماعيل المقدم في محاضراته في تفسير القرآن الكريم: الإدناء شيء زائد على لبس الجلباب، يقال: أدن الثوب من وجهك. يعني: غطه به ... فهذه الآية باتفاق المفسرين في هذا المعنى. قوله تعالى: ((يدنين عليهن من جلابيبهن)) يعني: هن في الأصل لابسات الجلباب، لكن أمرن بشيء زائد على الجلباب، ألا وهو الإدناء بتغطية الوجه. اهـ.

وقال الأستاذ الدكتور محمد على السايس في تفسير آيات الأحكام: من المعروف أن هذه الآية نزلت بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب ستر العورة، فلا بد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدا على ما يجب من ستر العورة؛ ولذلك ترى عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها متحدة في أن المراد بالجلباب الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كله من فوق ثيابها، كالملاءة المعروفة في عصرنا.

وعلى ذلك؛ يكون الأمر بإدناء الجلابيب من الأدب الحسن، زيادة في الاحتياط، ومبالغة في التستر والاستعفاف، وبعدا عن مظان التهمة والارتياب. اهـ.

وقال الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في التفسير المنير: المقصود بالآية التي نزلت بعد استقرار الشريعة، أن يكون الستر المأمور به زائدا على ما يجب من ستر العورة، وهو أدب حسن يبعد المرأة عن مظان التهمة، والريبة، ويحميها من أذى الفساق. اهـ.

وأمر آخر في دلالة التعبير بالإدناء، أشار إليه الألوسي في (روح المعاني) فقال: الإدناء: التقريب، يقال: أدناني، أي: قربني. وضمن معنى الإرخاء أو السدل؛ ولذا عدي بعلى، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين، الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين، فتأمل. اهـ.

وقد تضمن الوجه الثاني من كلام الشيخ المباركفوري السابق، جواب السؤال الثاني.

ولمزيد الإيضاح، ننقل كلام الزمخشري في الكشاف، حيث قال: فإن قلت: ما معنى {من} في {من جلابيبهن}؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:

أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.

والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة. اهـ.

وقال البيضاوي في أنوار التنزيل: (من) للتبعيض، فإن المرأة ترخي بعض جلبابها، وتتلفع ببعض. اهـ.

وأما السؤال الثالث، فلم نجد نصا على جوابه فيما اطلعنا عليه من كتب أهل العلم، ولكن من الواضح أن في قول تعالى:  ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين {الأحزاب:59}، بيان للحكمة من أمر النساء بالإدناء عليهن من جلاليبهن، قال السعدي في تفسيره: {يدنين عليهن من جلابيبهن} .. أي: يغطين بها وجوههن، وصدورهن. ثم ذكر حكمة ذلك، فقال: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} دل على وجود أذية، إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن، ربما ظن أنهن غير عفيفات، فيتعرض لهن من في قلبه مرض، فيؤذيهن، وربما استهين بهن. اهـ.

وقال أبو حيان في البحر المحيط: {ذلك أدنى أن يعرفن} لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن؛ لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام، لم يقدم عليها، بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها. اهـ. 

ومن المعلوم أن تحقق هذه الحكمة أمر غالب، ولكنه ليس كليا، فقد يشذ في بعض الأحوال حوادث تتعرض فيها المرأة المحجبة لشيء من الأذى، وهذا يشكل على التعبير الذي اقترحته السائلة: (لكي يعرفن فلا يؤذين). وأما لفظ الآية فهو موافق للواقع تماما: {ذلك أدنى}، فهذا أجدر وأقرب إلى رفع الأذى عنها، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك في كل الأحوال بلا استثناء، ولا شذوذ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات