0 139

السؤال

سمعت أحد المشايخ يتحدث عن سلسلة محاضرات: المدخل إلى الفقه الإسلامي. وخلال حديث ذكر أمرا غريبا بالنسبة لي، وهو أن ((كثيرا)) من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم تصلنا، وذكر كلاما لشيخ الإسلام وهو قوله-رحمه الله-: ((ولأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا، أو لا يصلنا إلا بإسناد منقطع...)).
فكيف ذلك والسنة محفوظة، وهناك طرق ((كثيرة)) مفقودة؟ وكذلك بعض الدواوين كمسند بقي بن مخلد؟
وذكر أن الإمام أحمد يحفظ مليون حديث، وكتب السنة كلها التي لدينا لا تبلغ حتى ١٠٠ ألف حديث!!!
لا أعلم هل يذكر ذلك تعصبا لأحمد أم ماذا؟ لكن عليه من الله ما يستحق إن كان قاصدا ذلك، فوالله، ثم والله، لقد شككني في ديني!
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فنقول ابتداء: إنه ينبغي للمشايخ وطلاب العلم عند حديثهم في دروسهم ومحاضراتهم، أن تكون عباراتهم دقيقة واضحة، ويبينوا للناس كلام أهل العلم ومحمله، حتى لا يشوشوا على الناس دينهم.

فشيخ الإسلام ابن تيمية، نص في عدة مواطن من كتبه على أن السنة محفوظة؛ لأنها من الذكر الذي أوحاه الله تعالى إلى نبيه، والمخبر عنه بقوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } سورة الحجر: 9.
قال رحمه الله تعالى: وقد قال سبحانه وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر/ 9]. وسنته التي هي الحكمة منزلة بنص القرآن، فإن كانت داخلة في نفس الذكر كما تقدم، وإلا كانت في معناه، فيكون حفظها بما حفظ به الذكر. ولهذا يوجد من الآيات الخارقة للعادة في حفظ السنة ما يؤكد ذلك، كما أن الله تعالى حفظ القرآن حفظا خرق به عادة حفظ الكتب السالفة. اهـ.
وقال أيضا: وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو: الكتاب والسنة، اللذان قال الله فيهما: { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [ البقرة : 231 ] ..... وهو الذكر الذي قال الله فيه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] ... اهـ.

وقال أيضا: فيكون الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، سليما من التناقض والتعارض محفوظا، قال الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]. اهــ.
ومثله قول تلميذه ابن القيم في الصواعق المرسلة: كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله، وقد قال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113]. فالكتاب القرآن، والحكمة السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أوتيت الكتاب ومثله معه" فأخبر أنه أوتي السنة كما أوتي الكتاب، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه؛ ليقيم به حجته على العباد... اهـ.
إذا تبين هذا، فإن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من احتمال عدم وصول بعض الأحاديث إلينا، لا يتعارض مع ما قرره من حفظ السنة، وذلك أن كلامه الذي أشار إليه ذلك المحاضر -وذكره شيخ الإسلام في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"- كان منصبا على نقص العلم عند المتأخرين بالنسبة لمن تقدمهم من الأئمة المتبوعين، وأن المتقدمين من الائمة المتبوعين بلغهم ما لم يبلغنا، ولم يكن كلامه على أن من السنة ما خفيت على الأمة كلها متقدميها ومتأخريها كلهم جميعا.

ونحن ننقل كلامه بحروفه، فقد قال رحمه الله تعالى: فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة، أو إماما معينا، فهو مخطئ خطأ فاحشا قبيحا.

ولا يقولن قائل: إن الأحاديث قد دونت وجمعت؛ فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين. ومع هذا، فلا يجوز أن يدعي انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين، كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية، فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين, وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية. اهـ.
 وما ورد عن بعض العلماء أن الإمام أحمد كان يحفظ ألف ألف حديث، لا يعنون به ألف ألف حديث مستقل، وإنما يعنون به الحديث بالطرق والأسانيد. فقد يأتي الحديث الواحد بأسانيد وطرق كثيرة، فيطلقون على كل سند وكل طريق، حديثا، مع أنه في الأصل حديث واحد مكرر، وكذلك يدخلون في هذا آثار الصحابة الموقوفة عليهم، وفتاوى التابعين.

وقد أورد الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" قول الإمام أبي زرعة عن الإمام أحمد أنه يحفظ ألف ألف حديث.

فقال الذهبي معلقا: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية، لا تبلغ عشر معشار ذلك. اهـ.

والله تعالى أعلم. 

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات