لا تعارض بين السنة الصحيحة والقرآن الكريم

0 145

السؤال

قبل فترة وجدت شخصا يتحدث عن اختلاف شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بين القرآن والسنة.
أنقل كلامه لكم.
كما اختلفت المذاهب في الاحتفال بمولد الرسول، اختلف وتباين وصف "محمد" بين القرآن والسنة، بحيث يصل فيها التناقض إلى درجة تجعل من الاستحالة تصور أن المصدرين (أي القرآن والسنة) يتكلمان عن الشخصية نفسها، فمحمد "القرآن" قد يدافع عن نفسه، ولكنه لا يعتدي على الآخرين: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، وأما محمد السنة فيقول "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"
ومحمد "القرآن" لا يعرف ماذا سيحدث له أو لغيره يوم القيامة: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم"، أما محمد السنة فهو يعلم الكثير من الغيب، فيبشر أفرادا بعينهم يقينا بدخول الجنة (العشرة المبشرون بالجنة!).
ومحمد القرآن ليس من حقه أن يكره أحدا على دخول الدين "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، بل ويؤمن بحرية العقيدة "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" أما محمد السنة فهو يقول "من بدل دينه فاقتلوه".
فما الرد جزاكم الله كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالحقيقة أن هذا الكلام لا يقيم وزنا لا للقرآن ولا للسنة!! ولكن لما تعسر على بعض الناس نقد الإسلام باسمه علانية، والطعن في القرآن مباشرة، راحوا يطعنون في السنة، متظاهرين بالتمسك بالقرآن، ليلبسوا على الناس دينهم، ويشوشوا من داخل الصف، لكون ذلك أقرب لتمرير باطلهم، والترويج له.
وعلى أية حال، فهذا التعارض المتوهم المزعوم بين القرآن والسنة، يمكن لكل جاهل يدعي الثقافة والتنوير أن يقيمه بين آيات القرآن ذاتها!!! والحقيقة أن التعارض إنما قام في ذهنه الكليل، وعقله الحسير، وأما الواقع فلا تعارض ولا اختلاف بين آيات الله تعالى، ولا بينها وبين ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمثلا هذا الذي عارض قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا [البقرة: 190] بالحديث المتفق عليه: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. كيف يصنع هذا الجاهل مع الآيات التي توافق هذا الحديث في الدلالة، كقوله تعالى: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا [النساء: 76]، ولا سيما الآيات المتأخرة في النزول كآيات سورة التوبة، ومنها قوله سبحانه: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم [التوبة: 5] ومنها قوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم. قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة: 28 ، 29] وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة [التوبة: 123] ؟؟

على أن الآية نفسها التي ذكرها هذا المتكلم لا يقصد بها ما رام إليه، فليس المراد بقوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. حصر القتال أو قصره على من بدأنا بالقتال، وإلا فقد قال الله تعالى بعدها: واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [البقرة: 191 - 193]

قال ابن كثير في تفسيره: قوله: {الذين يقاتلونكم} إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التوبة: 36] ؛ ولهذا قال في هذه الآية: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصا ... وقوله: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} أي: قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المثلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيان، وغيرهم ... ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل. اهـ.

ونظير هذا قوله تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير [الأنفال: 38 - 40].

وعلى نحو ذلك: توهم التعارض بين قوله تعالى: لا إكراه في الدين [البقرة: 256] أو قوله تعالى: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [الكهف: 29] وبين حديث: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري. فقد أشار القرآن إلى قتال المرتدين، كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم [المائدة: 54] وقد استدل بعض أهل العلم على عقوبة المرتد في القرآن بقوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم [المائدة: 33] وكذلك قوله تعالى: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الأحزاب: 60 - 62] وتفصيل ذلك محله كتب الفقه وأحكام القرآن وتفسيره. وعلى أية حال فقد سبق لنا بيان ذلك إجمالا في الفتويين: 222244، 142343 وما أحيل عليه فيهما. كما سبق لنا بيان أن عدم الإكراه في الدين لا يعني الأمر بحرية الاعتقاد، وذلك في الفتوى رقم: 170755.
وأما إقامة التعارض بين قوله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [الأحقاف: 9] وبين إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أمور الغيب: فمما يطول منه العجب!! فإن نفي النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه الذاتي بالغيب أمر واضح لا إشكال فيه، ولكن هذا لا يتعارض مع إعلام الله له بالغيب عن طريق الوحي! ولذلك نص بقية الآية: إن أتبع إلا ما يوحى إلي [الأحقاف: 9] فهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولكن يأتيه علمه من الله وحيا، وعلى هذا نص القرآن ذاته، فقال تعالى: قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا. عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول .. [الجن: 25 - 27] قال ابن كثير: قوله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} هذه كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] وهكذا قال هاهنا: إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه؛ ولهذا قال: {فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} وهذا يعم الرسول الملكي والبشري. اهـ.
وقال السعدي: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيب {إلا من ارتضى من رسول} أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به، وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق. اهـ.
والحاصل أنه لا يمكن أن يتعارض شيء من السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع شيء من القرآن، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 313126. وإنما السنة تفسر القرآن، وتبين مجمله، وتخصص عامه، وتقيد مطلقه، كما إنها تنفرد ببعض الأحكام التي لم تذكر في القرآن أصلا، وراجع في ذلك الفتويين: 36822، 40372.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات