قول الفقهاء في إثبات الوفاة

0 14

السؤال

إثبات شهادة وفاة من الناحية الشرعية لعدم إمكانية إثباتها من دائرة الأحوال الشخصية في إحدى البلاد. شخص متزوج، وعنده أولاد؛ ذكور وإناث، ووالد، ووالدة. تم اعتقاله بتهمة سياسية، وتم قتله في السجن بعد بضعة شهور من اعتقاله، حسب الشهادة السمعية من شخص رافقه في السجن من أول يوم من اعتقاله إلى اليوم الذي تم فيه قتله هو وآخرون معه، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود كتب لهذا الشاهد ولشهود آخرين الفرج، وخروجهم من نفس السجن، وخروجهم من البلاد، وأدلوا بهذه الشهادة أمام أهل المتوفى. وهؤلاء الشهود ما زالوا أحياء.
ولقد تم دفن الفقيد في مكان مجهول دون إعطاء جثمانه إلى ذويه، ودون إعطاء أي مستند أو شهادة رسمية من قبل الدولة تدل على وفاته، ولا حتى شفهيا. بعد وفاة هذا الفقيد طالب والدا الفقيد زوجته وأولاده بحصتهم من تركة ابنهم، فكان جوابهم نريد إثبات شهادة وفاة لابنكم، وهم على علم يقين أن مثل هذه الشهادة لا تصدرها الدولة، فرفع والدا الفقيد طلبهم بحقهم من ابنهم إلى قاضي السماء، ولم يلجؤوا للمحاكم لعدم قدرتهم، وخوفهم من الدولة لأنهم لا يستطيعون أن يدلوا في المحاكم أن ابنهم قتل في السجن. ثم توفي والد الفقيد بعد ابنه بثلاث سنين، وبعده بعشرين سنة توفيت والدته، وكان أولاد الفقيد وزوجته يسيرون معاملة دعوى مفقود أمام السلطات القضائية من أجل الحصول على شهادة وفاة حكمية للمفقود، حيث يكون أقرانه قد بلغوا عمر 80 سنة، وهو في الحقيقه ليس بمفقود بل متوفى. وفعلا حصلت زوجة وأولاد الفقيد على شهادة وفاة لمفقود من المحاكم في تلك البلد بأنه متوفى حكميا أي بحكم المفقود بعد أكثر من ثلاثة عقود من وفاته الحقيقية، وعليه أجرت زوجته وأولاده حصر إرث بينهم بعد هذا التاريخ، وتقاسموا التركه فيما بينهم متجاهلين لحق جدهم وجدتهم بالتركة، ومن تلاهم من بعدهم؛ لأن شهادة الوفاة لمفقود صدرت بعد وفاة والدي أبيهم، حتى لا يرثا من ابنهم. ولما طالب أعمامهم وعماتهم بحق والديهما من أخيهم المتوفى أعادت زوجة المفقود وأولادها نفس الطلب بأنهم يريدون شهادة وفاة حقيقية من الأحوال الشخصية تبين أن والدهم توفي قبل والديه ليرثوا حسب مبدأ المناسخة في الإسلام، وهم على علم يقين أن الدولة لا تصدر مثل هذه الشهادة، ولا هم أنفسهم استطاعوا أن يحصلوا على هذه الشهادة. سؤال أليس شهادة الوفاة في الإسلام تكون إما بالرؤية، أو بالسمع، أو بالبينة أي شهادة السمع تكفي وحدها؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فإثبات وفاة أحد لا يتوقف على شهادة وفاة صادرة من الدولة، وشهادة السجناء الآخرين على وفاة ذلك السجين إن كانت عن معاينة منهم لقتله، أو رأوه ميتا، فهذه تكفي في إثبات وفاته بلا شك، ولا خلاف بين أهل العلم في إثبات وفاته بشهادتهم، ولا يعتبر مفقودا، والمفقود عند الفقهاء: هو الغائب الذي انقطع خبره، ولا يدرى حياته من موته، وهذا قد علم موته بشهادة من رآه ميتا، بل لو قال السجناء إنه قد مات من غير أن يذكروا تفصيلا هل رأوه ميتا أم لا لكفى ذلك في إثبات وفاته.

جاء في كتاب "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" لابن عابدين الحنفي:
(سئل) في رجل غاب عن دمشق بلدته إلى بلاد الحجاز من مدة سنة ونصف وله أخ وأخت شقيقان وعلى الغائب دين لجماعة أخبر الأخت المزبورة رجل أنه سمع من الناس أنه مات ولم يكن موته مشهورا تزعم الأخت وأصحاب الديون أنه ثبت موته بمجرد الإخبار المذكور فهل والحالة هذه لا يثبت الموت بمجرد ذلك؟

(الجواب): نعم وإذا شهد شاهدان على موت رجل فهذا على وجهين:
أما إن أطلقا الشهادة إطلاقا ولم يبينا شيئا.
أو قالا لم نعاين موته وإنما سمعنا من الناس.
ففي الوجه الأول تقبل شهادتهما.
وفي الوجه الثاني إن لم يكن موت فلان مشهورا فلا تقبل الشهادة بلا خلاف وإن كان موته مشهورا ذكر في الأصل وكتاب الأقضية أنه تقبل. اهــ

ونص الفقهاء على أن شهادة السماع تكفي في إثبات الوفاة إذا كانت باستفاضة.

قال الإمام النووي في المجموع: والموت جاز أن يشهد فيه بالاستفاضة .... وان استفاض أن فلانا مات جاز أن يشهد به لأن أسباب الموت كثيرة، منها خفية ومنها ظاهرة ويتعذر الوقوف عليها، وفي عدد الاستفاضة وجهان (أحدهما) وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله أن أقله أن يسمع من اثنين عدلين لأن ذلك بينة، (والثاني) وهو قول أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي رحمه الله أنه لا يثبت إلا بعدد يقع العلم بخبرهم لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من جهتهم. اهــ.

ومتى ثبت أن ذلك السجين قد مات، فإنه ليس لزوجته وأولاده الحق في التمسك بطلب شهادة الوفاة من الدولة، أو اعتباره مفقودا، ولوالديه الحق في تركته، وينتقل ذلك الحق إلى ورثتهما بعد وفاتهما، وكون المحكمة حكمت بشيء باطل، فإن هذا لا ينفع الزوجة والأولاد في شيء، ولا يسقط حق الورثة.

جاء في الموسوعة الفقهية:  الباطل لا يصير صحيحا بتقادم الزمان أو بحكم الحاكم:
التصرفات الباطلة لا تنقلب صحيحة بتقادم الزمان، ولو حكم حاكم بنفاذ التصرفات الباطلة، فإن ثبوت الحق وعودته يعتبر قائما في نفس الأمر، ولا يحل لأحد الانتفاع بحق غيره نتيجة تصرف باطل ما دام يعلم بذلك. فإن حكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.
هذا هو الأصل، والقضاة إنما يقضون بحسب ما يظهر لهم من أدلة وحجج يبنون عليها أحكامهم، وقد تكون غير صحيحة في نفس الأمر، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روت أم سلمة عنه: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بما أسمع، وأظنه صادقا، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار. اهـــ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة