استحقاق الله تعالى للطاعة والعبادة

0 9

السؤال

عندي مشكلة في فهم جزئية معينة في قضية العبادة، فأرجو من حضراتكم قراءة سؤالي بشكل كامل؛ حتى يتضح مقصدي.
سؤالي بخصوص استحقاق الله للعبادة: فبحسب فهمي فإن العبادة هي غاية الذل، مع غاية الحب والخضوع، وتنقية القلب من كل شيء إلا المعبود؛ وعلى هذا المعنى، فإن العبادة لا يستحقها إلا الله، فهو النافع الضار، وهو المتصرف في كل الأمور، فلا يتصور عقلا أن يعبد أو يتضرع لغيره...
ولكن من ضمن مقتضيات العبادة أيضا بحسب ما سبق: الطاعة، والانقياد بتنفيذ الأوامر، واجتناب النواهي؛ وهنا يجب أن يكون المطاع لا يأمر إلا بكل حق وخير وعدل، ولا ينهى إلا عن كل باطل وشر وظلم، وهنا الإشكال عندي، فلماذا عند الحديث عن استحقاق الله للعبادة، لا يذكر إلا قدرة الله، وأنه هو النافع الضار، وأنه الخالق المنعم؟ ولماذا لا يذكر أنه لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر؟ ولو كان الله لا يأمر بالعدل والإحسان، فهل كان سيستحق العبادة أيضا؟
أرجوكم أريد الجواب؛ لأن الإجابة عن آخر هذا السؤال، ستحدد نظرتي للموضوع بصفة عامة؛ لأن العبادة لو كانت تستحق لصفات القوة والجلال، وما إلى ذلك من حكم وتصرف، بعيدا عن الحق والعدل، فهذا معناه أنه لا قيمة في الأمر، وأن الأمر ما هو إلا إله خلقنا ورزقنا، ويملك نفعنا وضرنا؛ فنعبده لهذا، فأين القيمة؟ أين الغاية العليا؟
والموضوع ما هو إلا تعظيم من له صفات عظيمة -من قوة، وقدرة-، والخير والشر ليس لهما نصيب.
أعلم أن الله هو خالق الخير والشر، ولكن -بحسب فهمي- فهو الذي اختار لنفسه الخير وارتضاه؛ لأنه المناسب لصفاته وأسمائه الحسنى؛ وعلى هذا فهو يرضى عن أهل الخير، ويبغض أهل الشر. يرضى عن من أطاعه؛ لأن من أطاعه فعل الحق، وهو طاعة من يستحق أن يطاع ويعبد، ويغضب على من عصاه وكفر به؛ لأنه فعل الباطل، وظلم ظلما شديدا، فهذا هو فهمي الذي تطمئن إليه نفسي، وبه أحب الله، وأرغب في رضاه، فرضاه هو غاية كل خير وحق ونور.
ولكن عندما أقرأ عن استحقاق الله للعبادة في مختلف أقوال العلماء، لا أجد إلا ما ذكرته من أنه القوي القدير، الخالق النافع الضار ...
أرجو أن أكون قد أوضحت سؤالي، وما لدي من إشكال، آملا أن أجد لديكم ما يشفي صدري.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالله عز وجل حقه أن يطاع، ويعبد وحده لا شريك له؛ وذلك لاتصافه بصفات الكمال المطلق، ليس فقط في ذاته، وإنما كذلك في فعله، وأمره، ونهيه، فهو العليم الحكيم، الغني الحميد، الذي لا يأمر إلا بما يوافق الحكمة، ويحقق المصلحة الراجحة، وهذا -بلا ريب- مما يتيقن به المؤمن من استحقاق الله تعالى للطاعة، والعبادة، قال ابن القيم في شفاء العليل: دل القرآن، والسنة، والفطرة، وأدلة العقول، أنه -سبحانه- خلق السماوات بالحق الذي هو وصفه، واسمه، وقوله، وفعله، وهو -سبحانه- الحق المبين، فلا يصدر عنه إلا حق، ولا يقول إلا حقا، ولا يفعل إلا حقا، ولا يأمر إلا بالحق، ولا يجازي إلا بحق ...

وهو -سبحانه- إنما خلق خلقه لعبادته، ومعرفته، وأصل عبادته محبته على آلائه ونعمه، وعلى كماله وجلاله؛ وذلك أمر فطري، ابتدأ الله عليه خلقه، وهي فطرته التي فطر الناس عليها، كما فطرهم على الإقرار به. اهـ.

وقال الشوكاني في قطر الولي: فإنه -عز وجل- ‌لا ‌يأمر ‌إلا ‌بما ‌فيه فائدة للعبد دنيوية، أو أخروية، إما جلب نفع، أو دفع ضر، هذا معلوم، لا يشك فيه إلا من لا يعقل حجج الله، ولا يفهم كلامه، ولا يدري بخير ولا شر، ولا نفع ولا ضر. ومن بلغ في الجهل إلى هذه الغاية، فهو حقيق بأن لا يخاطب، وقمين بأن لا يناظر. اهـ.

وقال المعلمي اليماني في "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله": كمال العبد المملوك إنما هو في ‌طاعة ربه. ويتأكد هذا في فهمك إذا لاحظت أن الرب هو الله عز وجل، وهو ‌لا ‌يأمر ‌إلا بالخير الذي يكون كمالا، يحمد عليه فاعله، ولا ينهى إلا عن الشر الذي ينافي الكمال والحمد، ويقتضي النقص والذم. ويزداد ذلك وضوحا إذا لاحظت أنه -سبحانه- الغني الحميد، فما كان فيما أمرهم به من خير، فهو لهم، ‌فعبادة ربهم هي كمالهم. اهـ.

وقال الشنقيطي -كما في العذب النمير من مجالس التفسير-: في اسميه (الحكيم العليم) أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه، ويتبعوا تشريعه؛ لأن بحكمته يعلمون أنه ‌لا ‌يأمرهم ‌إلا ‌بما ‌فيه الخير، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر، فلا يوقع لهم أمرا إلا في موقعه، ولا يضعه إلا في موضعه.

 وبإحاطة علمه: يعلمون أنه ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، ولا عاقبة تنكشف عن غير ما أراد، بل هو في غاية الإحاطة والإحكام.

 وإذا كان من يأمرك عليم، لا يخفى عليه شيء، حكيم في غاية الإحكام، لا يأمرك إلا بما فيه الخير، ولا ينهاك إلا عما فيه الشر؛ فإنه يحق لك أن تطيع وتمتثل. اهـ.

وقال السعدي في مقدمة تفسيره في بيان معنى اسم الله {الحميد}: أي: المحمود في ذاته، وفي أسمائه؛ لكونها حسنى، وفي صفاته؛ لكونها كلها صفات كمال، وفي أفعاله؛ لكونها دائرة بين العدل، والإحسان، والرحمة، والحكمة، وفي شرعه؛ لكونه ‌لا ‌يأمر ‌إلا ‌بما ‌فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة. اهـ.

وقد نزه الله تعالى نفسه عن أن يأمر بالفحشاء، وأثنى على نفسه بالأمر بالعدل، والقسط، فقال سبحانه: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90]، وقال عز وجل: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين [الأعراف:28-29]، فجمعت الآيتان بين نفي أمر الله بالفحش، وإثبات أمره بالقسط، ثم عطفت على ذلك الأمر بعبادته وحده لا شريك له، قال السعدي في تفسيره: {قل إن الله لا ‌يأمر بالفحشاء} أي: لا يليق بكماله وحكمته أن ‌يأمر عباده بتعاطي الفواحش. لا هذا الذي يفعله المشركون، ولا غيره. {أتقولون على الله ما لا تعلمون} وأي افتراء أعظم من هذا!؟

ثم ذكر ما ‌يأمر به، فقال: {قل أمر ربي بالقسط} أي: بالعدل في العبادات، والمعاملات، لا بالظلم والجور. {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} أي: توجهوا لله، واجتهدوا في تكميل العبادات، خصوصا الصلاة، أقيموها ظاهرا وباطنا، ونقوها من كل نقص ومفسد.

{وادعوه مخلصين له الدين} أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراؤوا، ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة