المفاضلة بين قراءة القرآن والصلاة على النبي

0 34

السؤال

عندي فراغ يقدر بساعتين مثلا في منتصف اليوم، لا أعمل فيه شيئا مفيدا. فجعلت فيه وردا من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. وخصوصا أني أمر ببعض المشاكل حتى يكفيني الله همي، ولكن نصحني أحد الصالحين أن أحفظ فيه ما تيسر من القرآن؛ لأنه خير الذكر، وقد فعلت ذلك فعلا. لكن بعد مدة وجدت أنني لم أحفظ الكثير بسبب أن وقت الفراغ ليس بالكبير، مما يجعلني لا أحفظ الكثير. وأحيانا أراجع، وفي نفس الوقت تركت الصلاة على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، أو بالأحرى قلت بشكل كبير جدا؛ لأني لا أستطيع أن أوفر لها وقتا كوقت الحفظ.
فما الأفضل للدنيا والآخرة: الاستمرار على الحفظ القليل، أو أعود للورد السابق؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن القرآن الكريم هو أفضل أنواع الذكر المطلق -كما سيأتي بيانه-، فاشتغالك في وقت فراغك بحفظ القرآن الكريم أفضل من الاشتغال ببقية الأذكار المطلقة؛ كالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-.

لا سيما وحفظ القرآن الكريم له فضل خاص زائد عن مجرد التلاوة، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقال -يعني- لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

جاء في الفتاوى الحديثية للهيتمي: هذا الحديث خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ في المصحف؛ لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها، ولا يتفاوتون قلة وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم.

ومما يؤيد ذلك أيضا: أن حفظ القرآن عن ظهر قلب فرض كفاية على الأمة، ومجرد القراءة في المصحف من غير حفظ لا يسقط بها الطلب، فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ.

فتعين أنه -أعني الحفظ عن ظهر قلب- هو المراد في الخبر، وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمل، وقول الملائكة له (اقرأ وارق) صريح في حفظه عن ظهر قلب، كما لا يخفى. اهـ.

لكن إن كان انتفاعك بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنفع لقلبك، لكونك مثلا عاجزا عن الحفظ، وتدبر القرآن الكريم؛ فالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل في حقك. 

فمن قواعد المفاضلة بين نوافل العبادات: أن العمل المفضول قد يكون في حق الشخص المعين خيرا من العمل الأفضل، لأمور تختص به، كانتفاعه به أكثر من غيره، أو عجزه عن فعل العمل الأفضل على وجه الكمال، أو نحو ذلك من الأسباب.

وقد سئل ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: عمن يحفظ القرآن: أيهما أفضل له تلاوة القرآن مع أمن النسيان؟ أو التسبيح، وما عداه من الاستغفار، والأذكار في سائر الأوقات؟

فقال: جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين:

فالأصل الأول: أن جنس تلاوة القرآن، أفضل من جنس الأذكار. كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: {أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر}.

وفي الترمذي عن أبي سعيد عنه -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: {من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين} " وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: {فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في صلاتي. قال: قل: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر}.

ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة، فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز. والبدل دون المبدل منه.

وأيضا: فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى دون الذكر والدعاء. وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل، فهو أفضل، كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان كانت أفضل من مجرد القراءة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:{ استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة}. ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة.

وأيضا فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر. وقد حكي إجماع العلماء على أن القراءة أفضل ...

الأصل الثاني وهو: أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك، وهو نوعان:

أحدهما: ما هو مشروع لجميع الناس.

والثاني: ما يختلف باختلاف أحوال الناس.

أما الأول: فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان، أو عمل يكون أفضل: مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهي عن الصلاة; فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان...

والنوع الثاني: أن يكون العبد عاجزا عن العمل الأفضل; إما عاجزا عن أصله كمن لا يحفظ القرآن، ولا يستطيع حفظه كالأعرابي الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-. أو عاجزا عن فعله على وجه الكمال، مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال.

ومن هنا قال من قال: إن الذكر أفضل من القرآن ... فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه وقوة إيمانه، واندفاع الوسواس عنه، ومزيد السكينة والنور والهدى: ما لا يجده في قراءة القرآن; بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه، أو لا يحضر قلبه وفهمه، ويلعب عليه الوسواس والفكر.

كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن، وفهمه، وتدبره، ما لا يجتمع في الصلاة; بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك.

وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد، بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له.

فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام، وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل.

ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد؛ كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: {الحج جهاد كل ضعيف}، ونظائر هذا متعددة.

إذا عرف هذان الأصلان: عرف بهما جواب هذه المسائل. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة