أضواء حول قوله تعالى: أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ

0 8

السؤال

لدي سؤال حول الآية الكريمة: "أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين"؛ هل ذم الله سبحانه وتعالى صفة النشأة في الحلية عند الإناث؟ وهل يفضل الله عز وجل الذكور على الإناث؟ وهل الإناث أقل منزلة لأنهن لا يبن في الخصام؟ أرجو أن تتقبلوا ضعفي في الفهم وجهلي، وأستغفر الله على هذا الظن.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فهذه الآية الكريمة وما سبقها وما لحقها من الآيات في سورة الزخرف، ليست في مقام بيان وصف الأنثى، أو المفاضلة بينها وبين الذكر! وإنما هي في تقرير التوحيد، ورد دعوى المشركين الذين ادعوا أن الملائكة إناث وهن بنات الله! قال تعالى: وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون [الزخرف: 15 - 19]. 

وقد ورد في هذا المعنى آيات كثيرة تشبه هذا السياق من حيث المضمون، قال الطوفي في شرح مختصر الروضة: أما الذين ادعوا الولد، فاحتج عليهم سبحانه وتعالى بآيات، منها قوله -عز وجل-: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون. وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر} ... ومنها قوله -عز وجل-: {أصطفى البنات على البنين. ما لكم كيف تحكمون}، {أم له البنات ولكم البنون}، {ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى}، وتقرير الدليل من هذه الآيات ونحوها: أنكم أيها الكفار تستحيون من حصول البنات لكم، حتى أن أحدكم إذا بشر بأنه قد ولد له بنت اربد وجهه، ونكس رأسه، وحزن وخجل، وذهب فوأدها، أي: دفنها حية لئلا يلحقه العار ببقائها، فكيف ترضون لله -عز وجل- ما تكرهونه لأنفسكم هذه الكراهة؟ وهل هذا إلا من المستقبحات الضرورية في الشاهد. اهـ. 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: كان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله! كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا}، وهم مع هذا يجعلون البنات نقصا وعيبا، ويرون الذكر كمالا، فقال لهم: كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين، وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم؟ فهذا احتجاج عليه بطريق الأولى في بطلان قولهم: إن له البنات، ولهم البنين. اهـ. 

والتعبير عن النساء بما ذكر في قوله تعالى: أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [الزخرف: 18]؛ إنما هو من باب الكناية، والغرض به نفي الأنوثة عن الملائكة.

قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن: اعلم أن العرب تعد الكناية من البراعة والبلاغة، وهي عندهم أبلغ من التصريح ... ولها أسباب -فذكر منها-: قصد البلاغة، كقوله تعالى: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} فإنه سبحانه كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك، والمراد نفي ذلك -أعني الأنوثة- عن الملائكة وكونهم بنات الله تعالى الله عن ذلك. اهـ. 

والمقصود أن هذه الصفات ليست ذما للإناث، ولا عيبا فيهن، فإنها ليست صفات كسبية، وإنما هي صفات جبلية وجدت فيها بأصل الخلقة، مراعاة لحالها ودورها في الحياة الإنسانية، وليس فيها حط لمكانة النساء، ولا إنقاص لفضل الفضليات منهن.

قال ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل: قوله تعالى: {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} إنما ذلك في تقصيرهن في الأغلب عن المحاجة؛ لقلة دربتهن، وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن. اهـ. 

وهذه الصفة وإن كانت هي الغالبة على الإناث جملة، لكن هذا لا يعني أن كل أنثى أضعف من كل ذكر في البيان والجدال! فمن النساء من هن أقوم بالحجة من كثير من الرجال، وهذا أمر معلوم مشاهد.

قال أبو العباس المبرد في الكامل في اللغة والأدب: كانت الخنساء وليلى بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك، والجملة ما قال الله -عز وجل-: {أومن ينشأ في الحلية وهو في ‌الخصام ‌غير ‌مبين} ... حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي، قال: وكانت تصير إلي هاشمية جارية حمدونة، في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر عن فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفا من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها، واقتدارها على أن تجري على لسانها ما في قلبها. وكذلك ما يؤثر عن خالصة وعتبة جاريتي ريطة بنت أبي العباس. فأما النساء الأشراف فإن القول فيهن كثير متسع. اهـ.

وهنا ننبه على أن الآية الكريمة لا تدل على ذم تزين الأنثى أو نشوئها في الحلية، بل يدل على العكس، وهو إباحة ذلك لها دون الرجال.

قال الكيا الهراسي الشافعي، وابن الفرس المالكي، كلاهما في (أحكام القرآن): الآية فيها دليل على ‌إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه، والأخبار فيه لا تحصى. اهـ.

وسئل أبو العالية الرياحي ‌عن ‌الذهب ‌للنساء. فقال: لا بأس به، يقول الله: {أومن ينشأ في الحلية}. اهـ. عزاه السيوطي في الدر المنثور لعبد بن حميد، وفي الإكليل لابن أبي حاتم.

وكذلك عدم الإبانة في الخصومة ليس ذما للإناث، بل هو بيان للغالب على خلقتهن، إذا قورن ببيان الذكور من حيث الجملة.

قال الشيخ الدكتور عبد الكريم الخضير في شرح بلوغ المرام: {وهو في ‌الخصام ‌غير ‌مبين} الرجال لا شك أنهم أهل الحجاج والخصومات، بخلاف النساء، فالنساء طبعهن ‌الحياء والانكسار، وعدم رفع الصوت، وعدم المخاصمة ... وقد يوجد في النساء من تفوق بعض الرجال، لكن المقصود به الجنس مقابلة الجنس بالجنس. اهـ. 

وهذا في حق النساء مدح، إذا كان سببه ما يغلب على المرأة من الحياء والتصون، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الحياء والعي في البيان، فقال صلى الله عليه وسلم: الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق. رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وصححه الألباني.

والعي ضد البيان، قال الفتني في مجمع بحار الأنوار: العي التحير في الكلام. اهـ. 

وقال المظهري في المفاتيح في شرح المصابيح: العي: ‌التحير والاحتباس في الكلام. اهـ. 

وأما مسألة تقديم الذكور على الإناث من حيث الجملة، فهو تقديم باعتبار الجنس وأصل النوع. أما باعتبار الأفراد، فالفضل للأتقى، فهناك كثير من النساء أفضل من كثير من الرجال، كما سبق بيانه في الفتويين: 106951، 61435.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات