مذاهب الفقهاء والمحدثين في حكم زيادة الثقة في الحديث

0 2

السؤال

في تقسيم ابن الصلاح لزيادة الثقة: القسم الثالث: (ما يقع بين هاتين المرتبتين، مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث..)، فما هي مذاهب الأئمة الأربعة في قبول الزيادة المخصصة للعام أو المقيدة للمطلق من الراوي الثقة، مع شيء من التفصيل، ومثال تطبيقي للتوضيح؟ بارك الله بكم، وجزاكم خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن التقسيم الذي مضى عليه ابن الصلاح ليس محل اتفاق بين أهل العلم، بل هناك من أطلق القول بالقبول، أو بالرد، كما صرح ابن الصلاح نفسه في المقدمة بذلك، فقال: ومذهب الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث، فيما حكاه الخطيب... خلافا لمن رد من أهل الحديث ذلك مطلقا، وخلافا لمن رد الزيادة منه، وقبلها من غيره... وقد رأيت تقسيم ما ينفرد به الثقة إلى ثلاثة أقسام... انتهى.

فهذا اجتهاده -رحمه الله- هو في هذا التقسيم، وما حكم به على القسمين الأولين، وأما الثالث فلم يحكم عليه بشيء، كما قال ابن حجر في النكت على ابن الصلاحقلت: لم يحكم ابن الصلاح على هذا الثالث بشيء... على أن القسم الأول الذي حكم عليه المصنف بالرد مطلقا، قد نوزع فيه، وجزم ابن حبان، والحاكم، وغيرهما بقبول زيادة الثقة مطلقا في سائر الأحوال... وفيه نظر كثير... انتهى.

فالمشهور عن جمهور الفقهاء والمحدثين -كما حكى ابن الصلاح- قبول زيادة الثقة، ومنها النوع الذي سألت عنه.

ومن الجمهور الأئمة الثلاثة -أعني مالكا، والشافعي، وأحمد-، على تفصيل في ذلك، خلافا لما يحكى عن أبي حنيفة من القول بردها، مع أنه قد حكي في مذاهبهم أقوالا أخرى، وإليك أشهر ما نقل في ذلك، ثم نذكر القول الراجح المنقول عن أهل الحديث الذين هم العمدة في هذا الباب؛ لأنهم أهل الرواية، والمنشغلون بها أكثر من غيرهم:

قال الزركشي في البحر المحيط -في زيادة الثقة، وحكمها-: الحالة الثالثة: أن يتحد المجلس، وينقل بعضهم الزيادة، ويسكت بعضهم عنها، ولا يصرح بنفيها، وفي المسألة مذاهب:

أحدها: وهو قول الجمهور من الفقهاء والمحدثين أنها مقبولة مطلقا... انتهى.

وما حكاه عن جمهور الفقهاء والمحدثين، هو ما نسبه ابن الصلاح للخطيب، وقد ناقشه العلائي فيه، ولم يسلم به، وسيأتي ذكره لاحقا.

وقد لخص ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي أشهر الأقوال في المذاهب الأربعة في حكم زيادة الثقة، وناقش بعض ما نسب إلى الأئمة منها، فقال: فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في هذا الباب: أن زيادة الثقة للفظة في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزا في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة، ولم يتابع عليها، فلا يقبل تفرده، وإن كان ثقة مبرزا في الحفظ على من لم يذكرها، ففيه عنه روايتان.. وأما أصحابنا الفقهاء، فذكروا في كتب أصول الفقه في هذه المسألة روايتين عن أحمد: بالقبول مطلقا، وعدمه مطلقا ... وإنما اعتمدوا على كلام له، لا يدل على ذلك... وحكى أصحابنا الفقهاء عن أكثر الفقهاء والمتكلمين قبول الزيادة، إذا كانت من ثقة، ولم تخالف المزيد، وهو قول الشافعي، وعن أبي حنيفة أنها لا تقبل، وعن أصحاب مالك في ذلك وجهان، وفي حكاية ذلك عن الشافعي نظر؛ فإنه قال في الشاذ: هو أن يروي ما يخالف الثقات، وهذا يدل على أن الثقة إذا انفرد عن الثقات بشيء أنه يكون ما انفرد به عنهم شاذا غير مقبول، والله أعلم... انتهى.

وقال إمام الحرمين في البرهان: فالزيادة من الراوي الموثوق به مقبولة عند الشافعي، وكافة المحققين، ومنع أبو حنيفة التعلق بها. انتهى.

 وقال ابن حجر في النزهة - بعد أن تعجب ممن أغفل اشتراط انتفاء الشذوذ في زياد الثقة، مع أنه شرط في الصحيح: وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة، مع أن نص الشافعي يدل على غير ذلك؛ فإنه قال في أثناء كلامه على ما يعتبر به حال الراوي في الضبط ما نصه: "ويكون إذا أشرك أحدا من الحفاظ لم يخالفه، فإن خالفه فوجد حديثه أنقص، كان في ذلك دليل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر ذلك بحديثه" انتهى كلامه. ومقتضاه أنه إذا خالف فوجد حديثه أزيد، أضر ذلك بحديثه ... فلو كانت عنده مقبولة مطلقا؛ لم تكن مضرة بحديث صاحبها، والله أعلم. انتهى.

وقال ابن حجر في النكت: قال الشافعي: (إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو يأتي بشيء في الحديث يشركه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ، وهم عدد وهو منفرد)، فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ، أو الأكثر عددا أنها تكون مردودة. انتهى. وهو قريب من رأي أحمد في المسألة من اعتبار الحفظ، وأن يكون مبرزا فيه.

وأما مذهب مالك، فقد قال القرافي في شرح تنقيح الفصول: قال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": إذا انفرد بعض رواة الحديث بزيادة، وخالفه بقية الرواة، فعند مالك، وأبي الفرج من أصحابنا تقبل، إن كان ثقة ضابطا. وقال الشيخ أبوبكر الأبهري، وغيره: لا تقبل، وبالأول قال الشافعية... قال القاضي: واختلف في صفة الزيادة المعتبرة، فقيل: الاعتبار بالزيادة اللفظية فقط المفيدة لحكم شرعي، ولا تكون تأكيدا، ولا قصة لا يتعلق بها حكم شرعي. انتهى.

واختار القرافي في أصل التنقيح التفصيل في المسألة، فقال: وإذا زادت إحدى الروايتين على الأخرى - والمجلس مختلف - قبلت، وإن كان واحدا - ويتأتى الذهول عن تلك الزيادة - قبلت، وإلا لم تقبل... انتهى. قال البرماوي في الفوائد السنية: وجرى عليه ابن الحاجب، والقرافي، وغيرهما. انتهى.

وقال أبو ذر عبد القادر في كتابه: الشاذ والمنكر وزيادة الثقة: ومن خلال استقرائي لمنهج الإمام مالك في موطئه بدراسة أسانيده، تبين لي أنه لم يقبل ولا في حديث واحد زيادة الثقة على قاعدة المتأخرين في فهمهم لها، بل على العكس، فقد رد أحاديث من مثل ذلك... انتهى. وذكر ستة أمثلة على ذلك.

وهذا يعني أن مالكا كان ينظر في القرائن -من الحفظ، وزيادة العدد- ونحو ذلك مما يطمئن معه إلى ثبوت الزيادة، كأحمد، والشافعي اللذين اعتبرا النظر في حال الراوي، وحال من لم يزد من الثقات، سواء في الحالة الثالثة التي ذكرها ابن الصلاح، أو غيرها.

وللمزيد في الأقوال المحكية عن الأئمة يرجع إلى كتب أصول الفقه، كالبحر المحيط، وتحرير المنقول، وشرح التنقيح، وغيرها. 

والأخذ بالقرائن والترجيح، فهو الجاري على قواعد أهل الحديث، وبه أخذ المحققون منهم:

قال ابن حجر في النكت على ابن الصلاحقلت: والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن، كما قدمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال. انتهى.

  وقال الزركشي في البحر: قال بعض مشايخنا (يقصد العلائي كما صرح به في النكت): والمحققون من أئمة الحديث خصوصا المتقدمين، كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهما كأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وهذه الطبقة ومن بعدهم، كالبخاري، وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأمثالهم، والدارقطني، كل هؤلاء مقتضى تصرفهم في الزيادة قبولا وردا الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث، وهذا هو الحق الصواب في نظر أهل الحديث. انتهى.

وأما المثال التطبيقي عليها، فنذكر ما نقله الزركشي في البحر عن ابن دقيق العيد، من قوله: وإن لم تنافه، لم يحتج إلى الترجيح، بل يعمل بالزيادة إذا أثبتت، كما في المطلق والمقيد، كقول أنس: رضخ يهودي رأس جارية، فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين رواه بعضهم هكذا مطلقا، وبعضهم يقول: فأخذ اليهودي، فاعترف، فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وهي رواية الصحيحين".

يريد ابن دقيق العيد أنه هنا يعمل بالزيادة، التي فيها، وهي: فاعترف. ومفهومه أنه إن لم يعترف؛ فإنه لا يقتل؛ حملا للمطلق على المقيد، ومن أمثلته ما زاده مالك في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين. فمالك زاد هذه اللفظة: من المسلمين، على بقية الرواة عن نافع، وإن كان هذا المثال قد نوزع في تفرد مالك بالزيادة فيه، كما سبق في كلام أحمد، وقد أخذ بمفهومه الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة، الذي لم يحمل المطلق على المقيد في هذا الحديث.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة