حكمة الخلق والابتلاء والتكليف

0 518

السؤال

أكتب إليكم لأقص عليكم حوارا حدث بيني وبين صديق لي عن العقيدة، بعد أن فرغت مني الحيل والحجج في مناقشة هذا الشخص. كان الجدال في موضوع شهير وموجود منذ الأزل، ألا وهو لماذا خلقنا.
سألني: لماذا خلقنا؟أجبته: هذا سؤال معروف، وجوابه معروف. "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وخلقنا الله ليمتحننا في الدنيا، ليثاب العابد ويعاقب العاصي، وحتى تتحقق لنا السعادة الأبدية في الآخرة.قال: أيحتاج ربنا لهذه العبادة؟ أو ليس يعرف من منا سيطيع، ومن منا سيعصي؟أجبت: بالطبع الله عز وجل غني عن هذه العبادة، في الحديث القدسي: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".إنما هي حتى يقيم الحجة على العاصي، لأن الله عز وجل لا يظلم أحدا، ولن يعاقب أحدا قبل أن يعصي.
قال: إذن، دعنا نأتي بتشبيه دنيوي، لنقل إن الدنيا عبارة عن شركة معينة ونحن موظفون فيها، عند توظيف أي موظف نقول له: عليك أن تجتهد وتعمل، والعمل هنا ليس بسهل وهناك الكثير من المصاعب، وجو العمل سيء ومتعب (الشهوات) ولكن عند بلوغك سن للتقاعد، وكنت موظفا جيدا، سنعطيك راتبا تقاعديا خياليا (الجنة)، أما إن لم تكن كذلك، فسوف نعاقبك ونزج بك في السجن (النار) أليس كذلك؟قلت: إلى حد ما، ولله عز وجل المثل الأعلى.قال: ولكن هل أنا مخير في وجودي في هذه الشركة؟ هل يحق لي الخروج منها؟أجبت: لا.قال: لماذا؟أجبت: هذا أمر الله عز وجل وليس لأحد أن يجادله، فهو المتصرف في عباده يفعل ما يشاء.قال: افترض أن صاحب هذه الشركة أيضا يجبرك على العمل فيها، ألن تشعر بالظلم؟ ألن تشعر أنك تريد أن تخير إذا ما كنت تريد العمل في هذا الجو السيئ المليء بالمصاعب بغض النظر عن مقدار الجائزة التي ستنالها في النهاية. ما هو شعورك ناحية صاحب الشركة في هذه الحالة؟ هل ستحبه لأنه سيعطيك الراتب الخيالي؟ أم ستكرهه لأنه أجبرك على العمل في الشركة من الأصل؟سألت: ماذا تقصد؟أجاب: أعني ماذا لو أني لا أريد أن أكون موجودا؟ لا أريد الحياة ولا الجنة ولا النار. تعطيني شهوة الجنس وتحرم علي الزنا، تعطيني حب المال وتحرم علي السرقة، تحيطني بالشهوات من كل جانب ثم تحرمها علي، تفرض علي البر بوالدين لا يمتون للأبوة والأمومة بصلة، لمجرد أنهما ربياني وأنا صغير عندما كنت لا أعي شيئا وعندما أتيا بي مجبرا على هذه الدنيا. وتقول لي يجب أن تعمل بجد، ويجب أن تكون سعيدا وتقبل على الحياة؟ كيف ذلك؟ أعلم أن الله هو الخالق والمتصرف في كل شيء ولا يجوز لنا أن نجادل في حكمته في الخلق. ولكن كيف لي أن أعمل بجد وأن أكون مقبلا على الحياة وأنا أشعر في داخلي أني مظلوم وأني لا أريد الوجود أصلا؟
فلم أعرف بماذا أجيب!! فأشيروا علي جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإنه يتعين عليك البعد عن الجدل بغير تحقيق ومعرفة تامة لموضوع النزاع ، فإن الجدل بغير علم من علامات الضلال، وربما أوقع في التقول على الله ، وفي الحديث الذي رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم قرأ: ما ضربوه لك إلا جدلا . ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي:  حديث حسن صحيح

وقد ثبت في الكتاب والسنة النهي عن القول على الله بغير علم ، والجدل بغير علم ، وأن يقال على الله غير الحق كما في قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {الأعراف: 33} وقوله سبحانه : ولا تقف ما ليس لك به علم {الإسراء: 36} وقوله : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق {الأعراف: 169} وقوله : لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق  {النساء: 171}

ثم اعلم أن غاية خلق الإنسان في هذه الحياة قد أوضحه الله فقال : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {الذاريات : 56} قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم . فواجب العبد وغايته في هذه الحياة هو التحلي الكامل بصفة العبودية التي هي شرف للعبد وتاج يفتخر به أمام العالمين ، وكل عبد في الدنيا مبتلى هل يستقيم على الطاعة أم ينحرف؟ قال تعالى : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور {الملك: 2} وقال تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا {الإنسان: 2 ـ 3}

فشرف الإنسان إنما هو في العبودية لله وهي المعنى الذي أوجد لأجله ، ودناءته بفقدان ذلك الفعل منه ، فمن لا يصلح لخلافة الله تعالى ولا لعبادته ولا لعمارة أرضه فالبهيمة خير منه ، ولذلك قال الله في ذم الذين فقدوا هذه الفضيلة : أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون {الأعراف: 179}

ويتعين التنبه إلى بعض الأمور :

1 ـ العبادة حق لله الخالق العظيم، فحقه علينا هو عبادته والتسليم له والانقياد لأمره ، وهو حق استحقه بمقتضى ربوبيته وألوهيته وكماله ، ولو لم تأت الرسل من عنده آمرة بعبادته لاستحق أن يعبد ويعظم لذاته لا لشيء زائد . وفي الصحيحين من حديث معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا .

2 ـ العبادة تحرير الإنسان من عبادة غير الله ، فإن الله تعالى قضى أن من ترك عبادته عبد غيره ، هذا الغير قد يكون حجرا أو قمرا أو هوى أو حزبا أو فكرا أو كاهنا أو معشوقا أو شهوة .

3 ـ أن العبادة سبب لطمأنينة النفس وانشراح الصدر وارتياح القلب، فالإنسان محتاج للعبادة لما فيها من منافع عائدة على نفسه، وأما الله فغني عن عبادة العالمين .

وأما الاحتجاج بكونه سبحانه يعلم مصير كل فرد من مخلوقاته فهذا أمر طبيعي للإله القادر العليم ، وكيف يكون ربا للأشياء وهو لا يعلم مصيرها ولا ما تؤول إليه ؟! وهو الذي يفعل ما يشاء كيف يشاء لا دخل لأحد من خلقه في فعله جل وعلا ، قال تعالى : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون {الأنبياء: 23}

ثم إن في إيجاد الإنس والجن وابتلائهم بالتكاليف ثم مجازاتهم على أعمالهم ظهورا لآثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ، فهو الخالق الرازق المحيي المميت ، وهو الرحمن الرحيم ، والحكيم العليم ، هو ناصر المؤمنين ومخزي الكافرين ، وهو الديان الذي يحاسب عباده ويجازيهم على أعمالهم ، وهو المنتقم الجبار ، الذي ينتقم لأوليائه من أعدائه ، وهو الموصوف بكمال العدل والإحسان جل وعلا .

وأما قياس العابد على الأجير في الشركة فهو قياس مع وجود الفارق لأن العبد مملوك مربوب لله تعالى خلقه للعبادة . وقد رباه وأسبغ عليه نعمه لينقاد له، قال الله تعالى : كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون {النحل:81} ولم يكلفه إلا بما في طاقته؛ كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها  {البقرة: 286} وقال تعالى: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون {الأعراف: 42}

فهل يعقل قياس الرب الذي خلقنا والذي نحتاج إليه في وجودنا ورزقنا وحفظنا ورعايتنا على شركة قد تتركها وتجد عوضا عنها ؟! هل يعقل قياس من نعيش بنعمه ونعقل بها ونبصر بها ونسمع بها على مخلوق لا حول له ولا قوة ولا يملك نفعا ولا ضرا ؟!

فالعبد من حيث التعامل مع الله تعالى عبد مربوب مملوك قد أنعم الله عليه بعبادات يسيرة سهلة لا تتجاوز وسعه وطاقته، وبهذه العبادات يظفر العبد بالحياة الطيبة في الدنيا، وبالرضوان ورؤية الله ودخول الجنة والسلامة من النار ومساكنة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين في الآخرة .

وأما الاحتجاج بأن الله تعالى ركب في الإنسان الشهوات وحرمها عليه.. فإنه يرد عليه بأن الله تعالى ما حرم شيئا إلا أباح ما يعف عنه ويعوضه. فقد حرم الزنا وأباح الزواج، وشرع الصوم لكبح النفس عن نزواتها ، وحرم الاعتداء على أموال الناس وأباح التكسب بالطرق المشروعة كالبيع والإجارة والزراعة .

وأما الوالدان فهما أعظم الناس حقا على الولد وأعظمهم عطفا عليه، فالواجب برهما والإحسان إليهما والحرص على رضاهما مهما كان حالهما، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك ، قال ثم من؟ قال: أمك ، قال: ثم من؟ قال: أمك ، قال: ثم من؟ قال: أبوك .

وفي الحديث : رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد . رواه ابن حبان والحاكم وحسنه الألباني

والله أعلم .

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة