تدبر القرآن والقول فيه بغير علم

0 341

السؤال

في إطار أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها، وكثير من الآيات التي تحث على التدبر أجد نفسي كثير التأمل والتدبر في بعض آيات الله، وتحوم خواطري في معاني خفية وأسرار خاصة تضاف إلى روعة الإعجاز القرآني لا أجدها في كتب المفسرين، وبدأت اكتبها لأعرضها لمن هم أفقه مني حتى لا أصيب التطاول في آيات الله، فهل أجد من يقرؤها عني لتقييمها وتصحيحها؟ فمثلا ضمن الخواطر حول الآيات 75 /76/77/78 من سورة الأنعام.
الانتقال من كوكب لآخر يمثل التدرج في الهداية إلى عبادة الرب الواحد، ويتدرج الكوكب الأقل توهجا، والتي تمثل الفطرة السليمة إلى آخر أكثر ضياء، والتواتر في انقشاع الظلمة يقابله رحلة اليقين، الانتقال من الضلال إلى الهداية واستشعار سيدنا إبراهيم أن نور هذه الكواكب إنما مستمد من نور أعظم، ويستمر التصوير الرباني ليجسد لنا بعد مسافات هذه الكواكب عن الأرض تتناسب تناسبا طرديا مع زيادة اليقين، وذلك التناسب المجازي أشبه ما جاء بالحديث القدسي: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا إلى آخر الحديث.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن تدبر القرآن لا شك في أهميته لقوله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب {ص: 29}.

 قال النووي رحمه الله: فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال الله عز وجل: أفلا يتدبرون القرآن. وقال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ...

ولا شك أن الله تعالى قد يفتح لبعض المتدبرين فهما في القرآن لم يسبق إليه.

 ففي الحديث: أن أبا جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري.

وهذا يدل على مشروعية وأهمية إعمال الفكر في استخراج الفوائد القرآنية وتدبر ما فيه من الأمور، ولكن فائدة التدبر ومقصده الأساسي تفهم معاني القرآن ومقاصده الأساسية وزيادة الايمان بما فيه من الحقائق الكبرى كالإيمان بالله وبالآخرة، فيزداد العبد هدى وخشية من الله واستجابة لأوامره، فيوجل القلب عند تلاوة القرآن وسماع آياته، كما قال سبحانه: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين {يونس:57}، وقال الله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. {الأنفال:2}.

وقال: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد {الزمر:23}، وقال ‏تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون  [الحشر:21].

 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن بتأن وتأمل وتفاعل مع آياته، ففي صحيح مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.

فعلى المسلم أن يجعل همه زيادة الإيمان والتأثر بالقرآن ولا يكون همه الاكتشافات المجردة عن الدليل، بل لا بد أن يتحرى موافقة الدلالة اللغوية لما اكتشفه، وأن لا يكون فيه ما يخالف الثابت من الوحي، فإن حمل القرآن على ما لم يدل عليه من القول على الله بغير علم، وإن من الذنوب العظيمة أن يقول المرء على الله ما لا علم له به. قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {الأعراف: 33}.

وهو من نزغات الشيطان التي يصطاد بها كثيرا من أهل الخير، وقد قال الله تعالى: ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {البقرة:168-169}.

ومسألة انتقال إبراهيم عليه السلام بقومه من كوكب للقمر ثم للشمس، أراد بها أن يبين لهم خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، والحق أن إبراهيم عليه السلام كان مناظرا لقومه مستدرجا لهم في بيان ضلالهم، لا أنه كان مقتنعا بما يقال في هذه المعبودات، بل إن يقينه وإيمانه بالله وتوحيده إياه كان كاملا قبل هذه المناظرة كما يفيده قوله تعالى قبل هذه الآيات وليكون من الموقنين، ولقوله إخبارا عن إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه إني أراك وقومك في ضلال مبين.

قال ابن كثير في تفسيره: والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي: القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس، ثم القمر ثم الزهرة، فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا، ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، قال يا قوم إني بريء مما تشركون أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء، وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام. وهو الذي قال الله في حقه: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ، إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون الآيات، وقال تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، وقال تعالى: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .

 وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مولود يولد على الفطرة، وفي صحيح مسلم: عن عياض بن حمار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله إني خلقت عبادي حنفاء، وقال الله في كتابه العزيز فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، وقال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، ومعناه على أحد القولين كقوله فطرة الله التي فطر الناس عليها كما سيأتي بيانه. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، ناظرا في هذا المقام، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، وما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا.

والله أعلم. 

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة