البحث الثاني : عن  
الواضع  
اختلف في ذلك على أقوال :  
الأول : أن الواضع هو الله سبحانه ، وإليه ذهب      
[ ص: 70 ] الأشعري  وأتباعه  
 nindex.php?page=showalam&ids=13428وابن فورك     .  
القول الثاني : أن الواضع هو البشر ، وإليه ذهب  
أبو هاشم  ومن تابعه من  
المعتزلة      .  
القول الثالث : أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه ، والباقي بالاصطلاح .  
القول الرابع : أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيف ، وبه قال الأستاذ  
أبو إسحاق  ، وقيل : إنه قال بالذي قبله .  
والقول الخامس : أن نفس الألفاظ دلت على معانيها بذاتها ، وبه قال  
عباد بن سليمان الصيمري     .  
القول السادس : أنه يجوز كل واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها ، وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب المحصول .  
احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فمن ثلاثة أوجه :  
الأول : قوله سبحانه :  
وعلم آدم الأسماء كلها   [ ص: 71 ] دل هذا على أن الأسماء توقيفية ، وإذا ثبت ذلك في الأسماء ، ثبت أيضا في الأفعال والحروف ، إذ لا قائل بالفرق .  
وأيضا : الاسم إنما سمي اسما ; لكونه علامة على مسماه ، والأفعال والحروف كذلك ، وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة .  
الوجه الثاني : أن الله سبحانه ذم قوما على تسميتهم بعض الأشياء دون توقيف ، بقوله  
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان  فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذم .  
الوجه الثالث : قوله سبحانه :  
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم     .  
والمراد اختلاف اللغات ، لا اختلافات تأليفات الألسن .  
وأما المعقول فمن وجهين :  
الأول : أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره ، وذلك لا يعرف إلا بطريق ، كالألفاظ ، والكتابة ، وكيفما كان فإن ذلك الطريق إما الاصطلاح ، ويلزم التسلسل أو التوقيف وهو المطلوب .  
الوجه الثاني : أنها لو كانت بالمواضعة لجوز العقل اختلافها ، وأنها على غير ما كانت عليه ; لأن اللغات قد تبدلت ، وحينئذ لا يوثق بها .  
وأجيب عن الاستدلال بقوله  
وعلم آدم الأسماء  بأن المراد بالتعليم الإلهام ، كما في قوله  
وعلمناه صنعة لبوس لكم  أو تعليم ما سبق وضعه من خلق آخر ، أو المراد بالأسماء المسميات ، بدليل قوله  
ثم عرضهم     .  
ويجاب عن الاستدلال بقوله  
إن هي إلا أسماء سميتموها  بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام ، من البحيرة والسائبة ، والوصيلة ، والحام .   
[ ص: 72 ] ووجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله .  
وأجيب عن الاستدلال بقوله  
واختلاف ألسنتكم  بأن المراد : التوقيف عليها بعد الوضع ، وإقرار الخلق على وضعها .  
ويجاب على الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل ; لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمى ، ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك .  
ويجاب عن الوجه الثاني : بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر .  
ومما يدفع هذا القول : أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله عز وجل ، لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم ; لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ، ولم يثبت ذلك .  
ويمكن أن يقال : إن  
آدم   عليه السلام علمها ، وعلمها غيره .  
وأيضا يمكن أن يقال : إن التعليم لا ينحصر في الإرسال ، لجواز حصوله بالإلهام ، وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية ، بل هي من وضع الناس بإلهام الله سبحانه لهم ، كسائر الصنائع .  
احتج أهل القول الثاني بالمنقول والمعقول .  
أما المنقول : فقوله سبحانه وتعالى :  
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه  أي بلغتهم ، فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسل ، فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور ; لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال ، والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها .  
وأجيب : بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف ، لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدور ; لأن الإرسال لتعليمها إنما يكون بعد وجودها معلومة للرسول عادة ، لترتب فائدة الإرسال عليه .  
وأجيب أيضا بأن  
آدم   عليه السلام علمها كما دلت عليه الآية وإذا كان هو الذي علمها لأقدم رسول اندفع الدور .   
[ ص: 73 ] وأما المعقول : فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري ، بأن وضعها لتلك المعاني ، أو لا يكون كذلك . والأول لا يخلو ، إما أن يقال خلق ذلك العلم في عاقل أو في غير عاقل ، وباطل أن يخلقه في عاقل ; لأن العلم بأنه سبحانه وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه ، فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به سبحانه ضروريا ، ولو كان العلم بذاته سبحانه ضروريا لبطل التكليف ، لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل يجب أن يكون مكلفا ، وباطل أن يخلقه في غير العاقل ; لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة ، والتركيبات اللطيفة .  
احتج أهل القول الثالث : بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره ، فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل ، فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ، ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح ، بل ذلك معلوم بالضرورة ، فإن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يعلمونها قبل ذلك .  
وأجيب بمنع توقفه على الاصطلاح ، بل يعرف ذلك بالترديد والقرائن ، كالأطفال .  
وأما أهل القول الرابع : فلعلهم يحتجون على ذلك : بأن فهم ما جاء توقيفا ، لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح والمواضعة .  
ويجاب عنه : بأن التعليم بواسطة رسول ، أو بإلهام يغني عن ذلك .  
واحتج أهل القول الخامس : بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين للمسمى المعين ترجيحا بدون مرجح ، وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب .  
وأجيب : بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه ، كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ، كتخصيص وجود العالم بوقت معين دون ما قبله أو بعده .  
وأيضا : لو سلمنا أنه لا بد من المناسبة المذكورة بين الاسم والمسمى ، كان ذلك ثابتا في وضعه سبحانه ، وإن خفي علينا .  
وإن كان الواضع البشر ، فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمي ولده باسم خاص .   
[ ص: 74 ] واحتج أهل القول السادس على ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها القائلون لا يفيد شيء منها القطع ، بل لم ينهض شيء منها لمطلق الدلالة ، فوجب عند ذلك الوقف ; لأن ما عداه هو من التقول على الله بما لم يقل ، وأنه باطل وهذا هو الحق .