إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 340 ] المسألة الثانية : في كون العموم من عوارض الألفاظ ، أو المعاني

ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ فإذا قيل : هذا لفظ عام صدق على سبيل الحقيقة .

وقال القاضي أبو بكر : إن العموم والخصوص يرجعان إلى الكلام ، ثم الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس وهو الذي يعم ويخص ، والصيغ والعبارات دالة عليه ولا يسمى بالعموم والخصوص إلا تجوزا ، كما أن الأمر والنهي يرجعان إلى المعنى العام بالنفس دون الصيغ . انتهى .

واختلف الأولون في اتصاف المعاني بالعموم ، بعد اتفاقهم على أنه حقيقة في الألفاظ ، فقال بعضهم : إنها تتصف به حقيقة ، كما تتصف به الألفاظ .

وقال بعضهم : إنها تتصف به مجازا .

وقال بعضهم : إنها لا تتصف به لا حقيقة ولا مجازا .

احتج القائلون بأنه حقيقة فيهما : بأن العموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد ، فكما صح في الألفاظ باعتبار شمول لفظ لمعان متعددة بحسب الوضع ، صح في المعاني باعتبار شمول معنى لمعان متعددة ; لأنه لا يتصور شمول أمر معنوي لأمور متعددة ، كعموم المطر والخصب ( والقحط للبلاد ، وكذلك يقال : عم المطر وعم الخصب ) ونحوهما ، وكذلك ما يتصوره الإنسان من المعاني الكلية ، فإنها شاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها ، ولذلك يقول المنطقيون : العام ما لا يمنع تصوره وقوع الشركة فيه والخاص بخلافه .

وأجيب : بأن العام شمول أمر لمتعدد ، وشمول المطر والخصب ونحوهما ليس كذلك إذ الموجود في مكان غير الموجود في المكان الآخر ، وإنما هو أفراد من المطر والخصب .

وأيضا ما ذكروه عن المنطقيين غير صحيح ، فإنهم إنما يطلقون ذلك على الكلي لا على العام .

ورد : بمنع كونه يعتبر في معنى العموم لغة هذا القيد ، بل يكفي الشمول ، سواء كان [ ص: 341 ] هناك أمر واحد أو لم يكن .

ومنشأ الخلاف هذا هو ما وقع من الخلاف في معنى العموم ، فمن قال : معناه شمول أمر لمتعدد ، واعتبروا وحدة الأمر وحدة شخصية منع من إطلاقه حقيقة على المعاني ، فلا يقال هذا المعنى عام ; لأن الواحد بالشخص لا شمول له ، ولا يتصف بالشمول لمتعدد إلا الموجود الذهني ، ووحدته ليست بشخصية ، فيكون عنده إطلاق العموم على المعاني مجازا لا حقيقة كما صرح به الرازي .

ومن فهم من اللغة أن الأمر الواحد الذي أضيف إليه الشمول في معنى العموم أعم من الشخصي ومن النوعي أجاز إطلاق العام على المعاني حقيقة .

وقيل : إن محل النزاع إنما هو من صحة تخصيص المعنى العام ، كما يصح تخصيص اللفظ العام ، لا في اتصاف المعاني بالعموم ، وفيه بعد ، فإن نصوص هؤلاء المختلفين مصرحة بأن خلافهم في اتصاف المعاني بالعموم .

التالي السابق


الخدمات العلمية