إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 366 ] المسألة التاسعة : في عموم الفعل المثبت

الفعل المثبت إذا كان له جهات ، فليس بعام في أقسامه ; لأنه يقع على صفة واحدة فإن عرف تعين ، وإلا كان مجملا يتوقف فيه ، مثل قول الراوي : صلى بعد غيبوبة الشفق ، فلا يحمل على الأحمر والأبيض ، وكذلك : صلى في الكعبة ، فلا يعم الفرض والنفل . هكذا قال القاضي أبو بكر . ، والقفال الشاشي ، والأستاذ أبو منصور ، والشيخ أبو حامد الإسفراييني ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وسليم الرازي ، وابن السمعاني ، وإمام الحرمين الجويني ، وابن القشيري ، والإمام فخر الدين الرازي ، واستدلوا على ذلك بأنه إخبار عن فعل ، ومعلوم أن الفاعل لم يفعل كل ما اشتمل عليه تسمية ذلك الفعل ، مما لا يمكن استيعاب فعله ، فلا معنى للعموم في ذلك .

قال الغزالي : وكما لا عموم له بالنسبة إلى أحوال الفعل فلا عموم له بالنسبة إلى الأشخاص ، بل يكون خاصا في حقه صلى الله عليه وسلم إلا أن يدل دليل من خارج لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي ، وهذا غير مسلم ، فإن دليل التأسي به صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ، ونحو ذلك ، يدل على أن ما فعله صلى الله عليه وسلم فسائر أمته مثله ، إلا أن يدل دليل على أنه خاص به .

وأطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه ، ثم اختار في نحو قوله [ ص: 367 ] نهى عن بيع الغرر ، وقضى بالشفعة للجار ، أنه يعم الغرر والجار مطلقا ، وقد تقدمه إلى ذلك شيخه الإبياري ، والآمدي ، وهو الحق ; لأن مثل هذا ليس بحكاية للفعل الذي فعله ، بل حكاية لصدور النهي منه عن بيع الغرر ، والحكم منه بثبوت الشفعة للجار ; لأن عبارة الصحابي يجب أن تكون مطابقة للمقول لمعرفته باللغة وعدالته ، ووجوب مطابقة الرواية للمسموع .

وبهذا تعرف ضعف ما قاله في المحصول من أن قول الصحابي : نهى عن بيع الغرر ، والحكم منه بثبوت الشفعة - لا يفيد العموم ; لأن الحجة في المحكي ، لا في الحكاية ، والذي رآه الصحابي حتى روى النهي يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة ، وأن يكون عاما ، ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم .

قال : وأيضا قول الصحابي : قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشاهد واليمين ، لا يفيد العموم ، وكذا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قضيت بالشفعة لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف ، ويكون الألف واللام للتعريف ، وقوله " قضيت " حكاية عن فعل معين ماض ، فأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قضيت بالشفعة ، وقول الراوي : أنه قضى بالشفعة للجار ، فالاحتمال فيهما قائم ، ولكن جانب العموم راجح . انتهى .

ولا يخفاك أن جانب العموم راجح في الصورتين كليهما .

أما قوله : نهى عن بيع الغرر ، وقضى بالشاهد واليمين فرجحان عمومه ، وضعف دعوى احتمال كونه خاصا - في غاية الوضوح لما قدمنا ، وقد نقل الآمدي عن [ ص: 368 ] الأكثرين مثل ما ذكره صاحب المحصول ، وهو خلاف الصواب ، وإن قال به الأكثرون ; لأن الحجة في الحكاية لثقة الحاكي ومعرفته .

وحكي عن بعض أهل الأصول التفصيل بين أن يقترن الفعل بحرف " أن " فيكون للعموم ، كقوله : قضى أن الخراج بالضمان ، وبين أن لا يقترن فيكون خاصا نحو قضى بالشفعة للجار ، وقد حكى هذا القول القاضي في التقريب ، والأستاذ أبو منصور ، والشيخ أبو إسحاق ، والقاضي عبد الوهاب ، وصححه ، وحكاه عن أبي بكر القفال ، وجعل بعض المتأخرين النزاع لفظيا من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغة المذكورة نحو أمر ، وقضى ، والمثبت للعموم فيها هو باعتبار دليل خارجي . انتهى .

وأما نحو قول الصحابي : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل كذا ، فلا يجري فيه الخلاف المتقدم ; لأن لفظ " كان " هو الذي دل على التكرار لا لفظ الفعل الذي بعدها ، نحو : كان يجمع ، وإنما الخلاف في قول الراوي جمع ونحوه ، وهذا إذا دلت قرينة على عدم الخصوص كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم صيغة أو صفة ، فيفهم أنه بيان فنتبعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية