إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسألة الثامنة عشرة : في عموم المقتضى

اختلفوا في المقتضى هل هو عام أم لا ؟

ولا بد من تحرير تصويره قبل نصب الخلاف فيه ، فنقول المقتضي - بكسر الضاد - هو اللفظ الطالب للإضمار بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء ، وهناك مضمرات متعددة فهل تقدر جميعها أو يكتفى بواحد منها ؟ وذلك التقدير هو المقتضى ، بفتح الضاد .

وقد ذكروا لذلك أمثلة مثل قوله تعالى الحج أشهر معلومات وقدره بعضهم : وقت إحرام الحج أشهر معلومات ، وبعضهم قدره : وقت أفعال الحج أشهر معلومات ، ومثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فإن هذا الكلام لا يستقيم بلا تقدير ; لوقوعهما من الأمة ، فقدروا في ذلك تقديرات مختلفة كالعقوبة ، والحساب ، والضمان ، ونحو ذلك ، ونحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما الأعمال بالنيات ، وأمثال ذلك كثير ، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحمل على العموم في كل ما يحتمله ; لأنه أعم فائدة ، وذهب بعضهم إلى أنه يحمل على الحكم المختلف فيه ; لأن ما سواه معلوم بالإجماع ، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وهذا كله خطأ ; لأن الحمل على الجميع لا يجوز ، وليس هناك لفظ يقتضي العموم ، ولا يحمل على موضع الخلاف ; لأنه ترجيح بلا مرجح . انتهى .

وذهب الجمهور إلى أنه لا عموم له بل يقدر منها ما دل الدليل على إرادته ، فإن لم [ ص: 381 ] يدل دليل على إرادة واحد منها بعينه ، كان مجملا بينها ، وبتقدير الواحد منها الذي قام الدليل على أنه المراد يحصل المقصود وتندفع الحاجة ، فكان ذكر ما عداه مستغنى عنه .

وأيضا قد تقرر أنه يجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على قدر الحاجة ، وهذا هو الحق ، وقد اختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، والغزالي ، وابن السمعاني ، وفخر الدين الرازي ، والآمدي ، وابن الحاجب .

قال الرازي في المحصول ، مستدلا للقائلين بعموم المقتضى : بأن إضمار أحد الحكمين ليس بأولى من إضمار الآخر ، فإما أن لا يضمر حكم أصلا ، وهو غير جائز ; لأنه تعطيل لدلالة اللفظ ، أو يضمر الكل ، وهو المطلوب .

هكذا استدل لهم ، ولم يجب عن ذلك .

وأجاب الآمدي عنه : بأن قولهم : ليس إضمار البعض أولى من البعض ، إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين ، وليس كذلك بل إضمار حكم ما ، والتعيين إلى الدليل ، ثم أورد عليه بأنه يلزم الإجمال .

وأجاب بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة الدليل ، وكل منهما يعني الإجمال ، وإضمار الكل خلاف الأصل .

قال ابن برهان : وإذا قلنا : ليس بمجمل فقيل يصرف إطلاقه في كل عين إلى المقصود واللائق به ، وقيل : يضمر الموضع المختلف فيه ; لأن المجمع عليه مستغن عن الدليل ، حكى ذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي .

قال الأصفهاني في شرح المحصول : إن قلنا المقتضى له عموم أضمر الكل ، وإن قلنا لا عموم له فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف الاستعمال قبل الشرع ، أو يضمر حكم من غير تعيين ، وتعيينه إلى المجتهد ، والأول اختيار الغزالي ، والثاني اختيار الآمدي ، والثالث التوقف . انتهى .

وهذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يفهم بدليل يدل على تعيين أحد [ ص: 382 ] الأمور الصالحة لتقديرها ، أما إذا قام الدليل على ذلك ، فلا خلاف في أنه يتعين للتقدير ما قام الدليل على تقديره ، كقوله سبحانه حرمت عليكم الميتة و حرمت عليكم أمهاتكم فإنه قد قام الدليل على أن المراد في الآية الأولى تحريم الأكل ، وفي الثانية الوطء .

التالي السابق


الخدمات العلمية