إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسألة التاسعة عشرة : في عموم المفهوم

اختلفوا في المفهوم ، هل له عموم أو لا ؟

فذهب الجمهور إلى أن له عموما ، وذهب القاضي أبو بكر الغزالي ، وجماعة من الشافعية إلى أنه لا عموم له .

قال الغزالي : من يقول بالمفهوم قد يظن أن له عموما ، ويتمسك به ثم رده بأن العموم من عوارض الألفاظ ، والمفهوم ليست دلالته لفظية ، فإذا قال : في سائمة الغنم الزكاة ، فنفي الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم أو يخص .

ورد ذلك صاحب المحصول : فقال إن كنت لا تسميه عموما لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الألفاظ فالنزاع لفظي ، وإن كنت تعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فهو باطل ; لأن البحث على أن المفهوم هل له عموم أم لا ، ومتى ثبت كون المفهوم حجة لزم القطع بانتفائه عما عداه ; لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة . انتهى .

قال القرافي : والظاهر من حال الغزالي أنه إنما خالف في التسمية ; لأن لفظ العموم إنما وضع للفظ لا للمعنى .

قال ابن الحاجب : إنما أراد الغزالي أن العموم لم يثبت بالمنطوق به فقط ، بل بواسطته ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وقال : الخلاف لا يتحقق في هذه المسألة .

قال الإبياري في شرح البرهان أن القائل بأن للمفهوم عموما مستنده أنه إذا قيل [ ص: 383 ] له : في سائمة الغنم الزكاة ، فقد تضمن ذلك قولا آخر ، وهو لا زكاة في المعلوفة ، وهو ولو صرح بذلك لكان عاما في المقصود ، أما إذا وجدنا صورة من صور المفهوم موافقة للمنطوق به ، فهل نقول بطل المفهوم بالكلية ، حتى لا يتمسك به في غير تلك الصورة ، أو نقول يتمسك به فيما وراء ذلك ؟ هذا موضع نظر .

قال : والأشبه بناء ذلك على أن مستند المفهوم ماذا : هل هو البحث عن فوائد التخصيص ، كما هو اختيار الشافعي ، فلا يصح أن يكون له عموم ، وإن قلنا : استناده إلى عرف لغوي فصحيح ، وخرج من كلامه وكلام الشيخ أن الخلاف معنوي ، وليس الخلاف لفظيا ، كما زعموا . انتهى .

قال العضد في شرحه لمختصر المنتهى : وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف ; لأنه إن فرض النزاع في أن مفهومي الموافقة والمخالفة يثبت بهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق من الصور أو لا ، فالحق الإثبات ، وهو مراد الأكثر ، والغزالي لا يخالفهم فيه ، وإن فرض أن ثبوت الحكم فيهما بالمنطوق أو لا ، فالحق النفي ، وهو مراد الغزالي ، وهم لا يخالفونه فيه ، ولا ثالث هاهنا يمكن فرضه محل النزاع .

والحاصل أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير العام بأنه ما يستغرق في محل النطق ، أو ما يستغرق في الجملة . انتهى .

قال الزركشي : ما ذكروه من عموم المفهوم حتى يعمل به فيما عدا المنطوق يجب تأويله على أن المراد ما إذا كان المنطوق جزئيا ، وبيانه أن الإجماع على أن الثابت بالمفهوم إنما هو نقيض المنطوق ، والإجماع على أن نقيض الكلي المثبت جزئي سالب ، ونقيض الجزئي المثبت كلي سالب ، ومن هاتين المقدمتين يعلم أن ما كان منطوقه كليا سالبا ، كان مفهومه جزئيا سالبا ، فيجب تأويل قولهم : إن المفهوم عام ، على ما إذا كان المنطوق به خاصا ليجتمع أطراف الكلام . انتهى .

وقد تقدم في مسألة الخلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ فقط ، أم من [ ص: 384 ] عوارض الألفاظ والمعاني ، وكذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في بحث المفهوم ما إذا تأملته زادك بصيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية