إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 386 ] المسألة الثالثة والعشرون : في العام الوارد على سبب خاص

ورود العام على سبب خاص ، وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وحكوا ذلك إجماعا ، كما رواه الزركشي في البحر .

قال : ولا بد في ذلك من تفصيل ، وهو أن الخطاب إما أن يكون جوابا لسؤال سائل أو لا ، فإن كان جوابا فإما أن يستقل بنفسه أو لا ، فإن لم يستقل بحيث لا يحصل الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه ، حتى كأن السؤال معاد فيه ، فإن كان السؤال عاما فعام ، وإن كان خاصا فخاص .

مثال خصوص السؤال قوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم ، وقوله في الحديث أينقص الرطب إذا جف ، قالوا : نعم ، قال : فلا إذا ، وكقول القائل : وطئت في نهار رمضان عامدا فيقول : عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ، ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج يدل على أنه عام في المكلفين ، أو في كل من كان بصفته .

ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان فقال : يعتق رقبة ، فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان ، وقوله : يعتق ، وإن كان خاصا بالواحد ، لكنه لما كان جوابا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع ، كان الجواب كذلك ، وصار السؤال معادا في الجواب .

قال الغزالي : وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله في كل وصف مؤثر للحكم .

[ ص: 387 ] وجعل القاضي في التقريب من هذا الضرب قوله أنتوضأ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه قال : لأن الضمير لا بد له من أن يتعلق بما قبله ، ولا يحسن أن يبتدأ به .

قال الزركشي : وفي هذا نظر ; لأن هذا ضمير شأن ، ومن شأنه صدر الكلام ، وإن لم يتعلق بما قبله .

قال : وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني ، وهو الصواب ، وبه صرح ابن برهان ، وغيره .

وإن استقل الجواب بنفسه ، بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاما تاما مفيدا للعموم ، فهو على ثلاثة أقسام ; لأنه إما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم .

الأول : أن يكون الجواب مساويا له ، لا يزيد عليه ولا ينقص ، كما لو سئل عن ماء البحر ، فقال : ماء البحر لا ينجسه شيء ، فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف ، كذلك قال ابن فورك ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وابن القشيري ، وغيرهم .

الثاني : أن يكون الجواب أخص من السؤال ، مثل أن يسأل عن أحكام المياه ، فيقول : ماء البحر طهور ، فيختص ذلك بماء البحر ، ولا يعم بلا خلاف كما حكاه الأستاذ أبو منصور ، وابن القشيري ، وغيرهما .

الثالث : أن يكون الجواب أعم من السؤال ، وهما قسمان :

أحدهما : أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر ، وجوابه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله هو الطهور ماؤه الحل ميتته فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ، ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم ، بل يعم حال الضرورة والاختيار ، كذا قال ابن فورك ، وصاحب المعتمد ، والمحصول ، وغيرهم .

وظاهر كلام القاضي أبي الطيب ، وابن برهان أنه يجري [ ص: 388 ] في هذا الخلاف الآتي في القسم الثاني ، وليس بصواب كما لا يخفى .

القسم الثاني : أن يكون الجواب أعم من السؤال في ذلك الحكم الذي وقع السؤال عنه ، كقوله لما سئل عن ماء بئر بضاعة الماء طهور لا ينجسه شيء وكقوله لما سئل عمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد فيه عيبا : الخراج بالضمان وهذا القسم محل الخلاف ، وفيه مذاهب :

الأول : أنه يجب قصره على ما خرج عليه السؤال ، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي ، وحكاه الشيخ أبو حامد ، والقاضي أبو الطيب ، وابن الصباغ ، وسليم الرازي ، وابن برهان ، وابن السمعاني عن المزني ، وأبي ثور والقفال ، والدقاق ، وحكاه أيضا الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري ، وحكاه أيضا بعض المتأخرين عن الشافعي ، وحكاه القاضي عبد الوهاب ، والباجي عن أبي الفرج من أصحابهم ، وحكاه الجويني في البرهان عن أبي حنيفة ، وقال : إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي ، وكذا قال الغزالي في المنخول ، ومعه فخر الدين الرازي في المحصول قال الزركشي : الذي في كتب الحنفية وصح عن الشافعي خلافه ، ونقل هذا المذهب القاضي أبو الطيب ، والماوردي ، وابن برهان ، وابن السمعاني عن مالك .

[ ص: 389 ] المذهب الثاني : أنه يجب حمله على العموم ; لأن عدول المجيب عن الخاص [ ص: 390 ] المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ، ولأن الحجة قائمة بما يفيده اللفظ ، وهو يقتضي العموم ، ووروده على السبب لا يصلح معارضا ، وإلى هذا ذهب الجمهور .

قال الشيخ أبو حامد ، والقاضي أبو الطيب ، والماوردي ، وابن برهان : وهو مذهب الشافعي ، واختاره أبو بكر الصيرفي ، وابن القطان .

قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن القشيري ، وإلكيا الطبري ، والغزالي : إنه الصحيح ، وبه جزم القفال الشاشي قال : والأصل أن العموم له حكمه إلا أن يخصه دليل ، والدليل قد اختلف ، فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه ، فذاك ، وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه ، وحكى هذا المذهب ابن كج عن أبي حنيفة والشافعي ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر الشافعية والحنفية ، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية ، وحكاه الباجي عن أكثر المالكية والعراقيين .

قال القاضي في التقريب : وهو الصحيح ; لأن الحكم معلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ، ولو قال ابتداء لوجب حمله على العموم ، فكذلك إذا صدر جوابا . انتهى .

وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ; لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع ، وهو عام ، ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب ، ومن ادعى أنه يصلح لذلك ، فليأت بدليل تقوم به الحجة ، ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك ، وإذا ورد في بعض المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محله بل يقصر عليه ، ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل يخصه ، وبين سائر العمومات الواردة على أسباب خاصة ، حتى يكون ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملا لها .

المذهب الثالث : الوقف ، حكاه القاضي في التقريب ، ولا وجه له ; لأن الأدلة هنا لم تتوازن حتى يقتضي ذلك التوقف .

المذهب الرابع : التفصيل بين أن يكون السبب هو سؤال سائل فيختص به ، وبين أن يكون السبب مجرد وقوع حادثة ، كان ذلك القول العام واردا عند حدوثها ، فلا [ ص: 391 ] يختص بها ، كذا حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي .

المذهب الخامس : أنه إن عارض هذا العام الوارد على سبب عموم آخر خرج ابتداء بلا سبب ، فإنه يقصر على سببه ، وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه .

قال الأستاذ أبو منصور : هذا هو الصحيح . انتهى .

وهذا لا يصلح أن يكون مذهبا مستقلا ، فإن هذا العام الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة ، فهو دليل خارج يوجب القصر ، ولا خلاف في ذلك على المذاهب كلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية