إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسألة السادسة والعشرون : في العام المخصوص هل هو حقيقة أو مجاز فيه

اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازا ؟

فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقا ، سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل ، وسواء كان بلفظ أو بغيره ، واختاره البيضاوي ، وابن الحاجب ، والصفي الهندي .

قال ابن برهان في الأوسط ، وهو المذهب الصحيح ، ونسبه إلكيا الطبري إلى المحققين ، ووجهه أنه موضوع للمجموع ، فإذا أريد به البعض فقد أريد به غير ما وضع له ، وذلك هو المجاز .

وأيضا لو كان حقيقة في البعض كما كان حقيقة في الكل لزم أن يكون مشتركا فيكون حقيقة في معنيين مختلفين ، والمفروض أنه حقيقة في معنى واحد .

وأيضا قد تقرر أن المجاز خير من الاشتراك ، كما تقدم فيكون مقدما عليه .

[ ص: 394 ] وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه حقيقة فيما بقي مطلقا ، قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : وهذا مذهب الشافعي وأصحابه ، وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ، ونقله ابن برهان عن أكثر الشافعية ، وقال إمام الحرمين : هو مذهب جماعة الفقهاء ، وحكاه ابن الحاجب عن الحنابلة .

قالوا : ووجه ذلك أن اللفظ إذا كان متناولا حقيقة باتفاق ، فالتناول باق على ما كان عليه ، ولا يضره طرد عدم تناول الغير ، وأجيب : بأنه كان يتناوله مع غيره ، والآن يتناوله وحده ، وهما متغايران ، وقالوا أيضا : إنه يسبق إلى الفهم من غير قرينة .

وأجيب : بأنه إنما يسبق إلى الفهم مع القرينة إذ السابق مع عدمها هو العموم ، وهذا دليل المجاز .

قال العضد : وقد يقال : إرادة الباقي معلومة دون القرينة إنما المحتاج إلى القرينة عدم إرادة الإخراج . انتهى .

ويجاب عنه بأن إرادة الباقي وحده دون غيره يحتاج إلى قرينة .

وذهب جماعة إلى أنه إن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة ، وإن خص بمنفصل فمجاز ، حكاه الشيخ أبو حامد ، وابن برهان ، وعبد الوهاب عن الكرخي ، وغيره من الحنفية . قال عبد الوهاب : هو قول أكثرهم ، قال ابن برهان : وإليه مال القاضي ، ونقله عنه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع .

واحتجوا : بأنه مع التخصيص بمتصل كلام واحد .

ويجاب : بأن ذلك المخصص المتصل هو القرينة التي كانت سببا لفهم إرادة الباقي من لفظ العموم ، وهو معنى المجاز ، ولا فرق بين قرينة قريبة أو بعيدة ، متصلة أو منفصلة .

وذهب عبد الجبار إلى عكس هذا القول ، حكى ذلك عنه ابن برهان في الأوسط ، ولا وجه له .

وحكى الآمدي أنه إن خص بدليل لفظي كان حقيقة في الباقي ، سواء كان ذلك المخصص اللفظي متصلا أو منفصلا ، وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازا ، [ ص: 395 ] ولا وجه لهذا أيضا ; لأن القرينة قد تكون لفظية ، وقد تكون غير لفظية .

وحكى أبو الحسين في المعتمد عن عبد الجبار أنه إن خص بالشرط والصفة فهو حقيقة ، وإلا فهو مجاز ، ولا وجه له أيضا ، وقد استدل له بما لا يصلح للاحتجاج به على محل النزاع .

وقال أبو الحسين البصري : إن كان المخصص مستقلا فهو مجاز ، سواء كان عقليا أو لفظيا ، وذلك كقول المتكلم بالعام أردت به البعض الباقي بعد الإخراج ، وإن لم يكن مستقلا فهو حقيقة ، كالاستثناء والشرط والصفة .

واختار هذا فخر الدين الرازي ، فإنه قال في المحصول : والمختار قول أبي الحسين ، وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صار مجازا ، وإلا فلا ، وتقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان : عقلية ولفظية ، أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات ، وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني ، وفي هذين القسمين يكون العام مجازا ، والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق ، فإذا استعمل هو بعينه في البعض ، فقد صار اللفظ مستعملا في غير مسماه لقرينة مخصصة ، وذلك هو المجاز .

فإن قلت : لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ، ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص .

قلت : فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجاز أصلا ; لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ، ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه ، والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا ؟ انتهى .

ويجاب عنه : بمنع كونه يفضي إلى ذلك ، ومجرد إمكان أن يقال لا اعتبار به ، بل الاعتبار بالدلالة الكائنة في نفس الدال ، مع عدم فتح باب الإمكان المفضي إلى سد باب الدلالة مطلقا فضلا عن سد باب مجرد المجاز .

وحكى الآمدي عن أبي بكر الرازي أنه إن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة ، وإلا فهو مجاز ، واختاره الباجي من المالكية ، وهذا لا ينبغي أن يعد مذهبا مستقلا ; لأنه لا بد من أن يبقى أقل الجمع ، وهو محل الخلاف ، ولهذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني ، والغزالي : إن محل الخلاف فيما إذا كان الباقي أقل الجمع ، فأما إذا بقي [ ص: 396 ] واحد أو اثنان ، كما لو قال : لو تكلم الناس ، ثم قال : أردت زيدا خاصة ، فإنه يصير مجازا بلا خلاف ; لأنه اسم جمع ، والواحد والاثنان ليسا بجمع . انتهى .

وهكذا لا ينبغي أن يعد مذهبا مستقلا ما اختاره إمام الحرمين من أنه يكون حقيقة فيما بقي ، ومجازا فيما أخرج ; لأن محل النزاع هو فيما بقي فقط ، هل يكون العام فيه حقيقة أم لا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية