إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسألة الثامنة والعشرون : في عطف بعض أفراد العام عليه

إذا ذكر العام وعطف عليه بعض أفراده مما حق العموم أن يتناوله ، كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فهل يدل ذكر الخاص على أنه غير مراد باللفظ العام أم لا ؟

وقد حكى الروياني في البحر عن والده في كتاب الوصية أنه حكى اختلاف العلماء في هذه المسألة ، فقال بعضهم : هذا المخصوص بالذكر لا يدخل تحت العام ; لأنا لو جعلناه داخلا تحته لم يكن لإفراده بالذكر فائدة .

قال الزركشي في البحر : وعلى هذا جرى أبو علي الفارسي ، وتلميذه ابن جني ، وظاهر كلام الشافعي يدل عليه فإنه قال في حديث عائشة في الصلاة الوسطى وصلاة [ ص: 400 ] العصر : إنه يدل على أن الصلاة الوسطى ليست العصر ; لأن العطف يقتضي المغايرة .

قال الروياني أيضا : وقال بعضهم هذا المخصوص بالذكر هو داخل تحت العموم ، وفائدته التأكيد ، وكأنه ذكر مرة بالعموم ، ومرة بالخصوص ، وهذا هو الظاهر ، وقد أوضحنا هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرحنا للمنتقى .

وإذا كان المعطوف خاصا فاختلفوا هل يقتضي تخصيص المعطوف عليه أم لا ، فذهب الجمهور إلى أنه لا يوجبه ، وقالت الحنفية : يوجبه ، وقيل بالوقف .

ومثال هذه المسألة قوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ، فقال الأولون : لا يقتل المسلم بالذمي ، لقوله لا يقتل مؤمن بكافر ، وهو عام في الحربي والذمي ; لأنه نكرة في سياق النفي .

وقالت الحنفية بل هو خاص ، والمراد به الكافر الحربي بقرينة عطف الخاص عليه ، وهو قوله : ولا ذو عهد في عهده فيكون التقدير : ولا ذو عهد في عهده بكافر . قالوا : والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع ; لأن المعاهد يقتل بالمعاهد ، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه .

قال الأولون ، وهذا التقدير ضعيف لوجوه :

أحدها : أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين المتعاطفين من كل وجه .

الثاني : أن قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا يحتاج إلى إضمار قوله " بكافر " ; لأن الإضمار خلاف الأصل ، والمراد حينئذ أن العهد عاصم من القتل ، وقد صرح أبو عبيد في غريب الحديث بذلك ، فقال : إن قوله ولا ذو عهد جملة مستأنفة ، وإنما قيده بقوله في عهده ; لأنه لو اقتصر على قوله ولا ذو عهد [ ص: 401 ] لتوهم أن من وجد منه العهد ، ثم خرج منه لا يقتل ، فلما قال في عهده علمنا اختصاص النهي بحالة العهد .

الثالث : أن حمل الكافر المذكور على الحربي لا يحسن ; لأن إهدار دمه معلوم من الدين بالضرورة ، فلا يتوهم أحد قتل مسلم به .

وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة ، وليس هناك ما يقتضي التطويل .

وقد قيل : على ما ذهب إليه الأولون ما وجه الارتباط بين الجملتين ، إذ لا يظهر مناسبة لقوله ولا ذو عهد في عهده مطلقا مع قوله لا يقتل مسلم بكافر .

وأجاب عن ذلك الشيخ أبو إسحاق المروزي : بأن عداوة الصحابة رضي الله عنهم للكفار كانت شديدة جدا ، فلما قال عليه الصلاة والسلام لا يقتل مسلم بكافر خشي أن يتجرد هذا الكلام فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره ، فعقبه بقوله ولا ذو عهد في عهده .

التالي السابق


الخدمات العلمية