إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 77 ] البحث الخامس : عن الطريق التي يعرف بها الوضع .

اعلم أنه لما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب وكان العلم بهما متوقفا على العلم بها ، كان العلم بها من أهم الواجبات .

ولا بد في ذلك من معرفة الطريقة التي نقلت هذه اللغة العربية بها إلينا إذ لا مجال للعقل في ذلك ; لأنها أمور وضعية ، والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها ، فلا تكون الطريق إليها إلا نقلية .

والحق أن جميعها منقول بطريق التواتر .

وقيل : ما كان منها لا يقبل التشكيك كالأرض ، والسماء ، والحر ، والبرد ، ونحوها ، فهو منقول بطريق التواتر ، وما كان منها يقبل التشكيك كاللغات التي فيها غرابة ، فهو منقول بطريق الآحاد .

ولا وجه لهذا ، فإن الأئمة المشتغلين بنقل اللغة ، قد نقلوا غريبها كما نقلوا غيره ، وهم عدد لا يجوز العقل تواطؤهم على الكذب في كل عصر من العصور ، هذا معلوم لكل من له علم بأحوال المشتغلين بلغة العرب .

وقد أورد الرازي في المحصول تشكيكا على هذا ، كعادته المستمرة في مصنفاته حتى في تفسير الكتاب العزيز ، فقال : أما التواتر فالإشكال عليه من وجوه :

الأول : أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين ، اختلافا لا يمكن معه القطع بما هو الحق كلفظة " الله " تعالى ، فإن بعضهم زعم أنه ليست عربية بل سريانية ، والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو الموضوعة ، والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا ، وكذا القائلون بكونها موضوعة اختلفوا أيضا اختلافا كثيرا .

ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللغة علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب ، فضلا عن اليقين .

وكذا اختلفوا في الإيمان ، والكفر ، والصلاة ، والزكاة ، حتى إن كثيرا من [ ص: 78 ] المحققين في علم الاشتقاق ، زعم أن اشتقاق الصلاة من ( الصلوين ) وهما عظما الورك ، ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب .

وكذلك اختلفوا في الأوامر والنواهي وصيغ العموم ، مع شدة اشتهارها وشدة الحاجة إليها اختلافا شديدا ، وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ ، والحاجة إلى استعمالها ماسة جدا كذلك ، فما ظنك بسائر الألفاظ ؟ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر . انتهى .

ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل هذه اللغة العربية إلينا بطريق التواتر عن العرب الموثوق بعربيتهم ، فالاختلاف في الاشتقاق والوضع وغير ذلك خارج عن محل النزاع ، ولا يصلح للتشكيك به بوجه من الوجوه .

وقد تنبه الرازي لهذا فقال : فإن قلت : هب أنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ على سبيل التفصيل ، ولكنا نعلم معانيها في الجملة ، فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله تعالى على الإله سبحانه ، وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ أهو الذات أم المعبودية أم القادرية ، وكذا القول في سائر الألفاظ .

قلت : حاصل ما ذكره أنا لا نعلم إطلاق لفظة الله على الإله سبحانه وتعالى من غير أن نعلم مسمى هذا الاسم ذاته ، أو كونه محمودا ، أو كونه قادرا على الاختراع ، أو كونه ملجأ الخلق ، أو كونه بحيث تتحير العقول في إدراكه ، إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ ، وذلك يفيد نفي القطع بمسماه ، وإذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع نهاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها ، كان تمكن الاحتمال فيما عداها أظهر . انتهى .

وهذا الجواب باطل ; لأن هذه اللفظة قد نقلت إلينا على طريقة التواتر ، ونقل إلينا الناقلون لها أنها موضوعة للرب سبحانه وتعالى ، وهذا القدر يكفي في الاستدلال به على محل النزاع .

وأما الاختلاف في مفهوم الإله سبحانه وتعالى فبحث آخر ، لا يقدح به على محل النزاع أصلا .

ثم قال مردفا لذلك التشكيك بتشكيك آخر ، وهو : أن من شرط التواتر استواء الطرفين والوسط ، فهب أنا علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة ، والنحو [ ص: 79 ] والتصريف ، في زماننا ، فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة ؟ انتهى .

ويجاب عنه : بأن علمنا حصولها فيهم في سائر الأزمنة بنقل الأئمة الثقات الأثبات ، المشتغلين بأحوال النقلة إجمالا وتفصيلا .

ثم أطال الكلام على هذا ، ثم عاد إلى التشكيك في نقلها آحادا ، وجميع ما جاء به مدفوع مردود ، فلا نشتغل بالتطويل بنقله والكلام عليه ، ففيما ذكرنا من الرد عليه ما يرشد إلى الرد لبقية ما شكك به .

وقد اختلف في جواز إثبات اللغة بطريق القياس :

فجوزه القاضي أبو بكر الباقلاني وابن شريح وأبو إسحاق الشيرازي [ ص: 80 ] والرازي وجماعة من الفقهاء .

ومنعه الجويني والغزالي والآمدي وهو قول عامة الحنفية ، وأكثر الشافعية ، واختاره ابن الحاجب وابن الهمام وجماعة من المتأخرين .

وليس النزاع فيما ثبت تعميمه بالنقل ، كالرجل ، والضارب ، أو بالاستقراء ، كرفع الفعل ، ونصب المفعول ، بل النزاع فيما إذا سمي مسمى باسم في هذا الاسم - باعتبار أصله من حيث الاشتقاق أو غيره - معنى يظن اعتبار هذا المعنى في التسمية ، لأجل دوران ذلك الاسم مع هذا المعنى وجودا وعدما ، ويوجد ذلك المعنى في غير ذلك الاسم .

فهل يتعدى ذلك الاسم المذكور إلى ذلك الغير بسبب وجود ذلك المعنى فيه ، فيطلق ذلك الاسم عليه حقيقة ؟ إذ لا نزاع في جواز الإطلاق مجازا ، إنما الخلاف في الإطلاق حقيقة ، وذلك كالخمر الذي هو اسم للنيئ من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد ، إذا أطلق على النبيذ إلحاقا له بالنيئ المذكور بجامع المخامرة للعقل ، فإنها معنى في الاسم يظن اعتباره في تسمية النيئ المذكور به لدوران التسمية معه ، فمهما لم توجد في ماء العنب ، لا يسمى خمرا بل عصيرا ، وإذا وجدت فيه سمي به ، وإذا زالت عنه ، لم يسم به ، بل خلا ، وقد وجد ذلك في النبيذ ، أو يخص اسم الخمر بمخامر للعقل هو ماء العنب المذكور ، فلا يطلق حقيقة على النبيذ ، وكذلك تسمية النباش سارقا للأخذ بالخفية ، واللائط زانيا للإيلاج المحرم .

احتج المجوزون : بأن دوران الاسم مع المعنى وجودا وعدما يدل على أنه المعتبر ; لأنه يفيد الظن .

[ ص: 81 ] وأجيب : بأن إفادة الدوران لذلك ممنوعة ؛ لما سيأتي في مسالك العلة ، وبعد التسليم لإفادة الدوران ، وكونه طريقا صحيحة ، فنقول : إن أردتم بدوران الاسم مع المعنى المذكور دورانا مطلقا ، سواء وجد في أفراد المسمى ، أو غيرها بادعاء ثبوت الاسم في كل مادة يوجد فيها ذلك المعنى ، وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه بطريق النقل فغير المفروض ; لأن ما يوجد فيه ذلك المعنى حينئذ يكون من أفراد المسمى ، فلا يتحقق إلحاق فرع بأصل ، وإن أردتم بدوران الاسم مع المسمى أن يدور معه في الأصل المقيس عليه فقط ؛ لوجود الاسم في كل مادة يوجد فيها المسمى ، وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه ؛ منعنا كونه طريقا مثبتا تسمية الشيء باسم لمشاركة المسمى في معنى ، دار الاسم معه وجودا وعدما ، وإن سلمنا كونه طريقا صحيحة لإثبات الحكم في الشرعيات ، فذلك لا يستلزم إثبات كونه طريقا صحيحا في إثبات الاسم وتعديته من محل إلى محل آخر ; لأن القياس في الشرعيات سمعي ثبت اعتباره بالسماع من الشارع وتعبدنا به ، لا أنه عقلي .

وأجيب ثانيا : بالمعارضة على سبيل القلب ، بأنه دار أيضا مع المحل ، ككونه ماء العنب ، ومال الحي ، ووطأ في القبل ، فدل على أنه معتبر ، والمعنى جزء من العلة .

ومن قال بقطع النباش وحد شارب النبيذ ، فذلك لعموم دليل السرقة والحد ، أو لقياسهما على السارق والخمر قياسا شرعيا في الحكم ، لا لأنه يسمى النباش سارقا ، والنبيذ خمرا بالقياس في اللغة - كما زعمتم - وأيضا القياس في اللغة إثبات بالمحتمل ، وهو غير جائز ; لأنه كما يحتمل التصريح باعتباره يحتمل التصريح بمنعه ، وأيضا لا يصح الحكم بالوضع بمجرد الاحتمال المجرد عن الرجحان ، وأيضا هذه اللغة العربية قد تقدم الخلاف هل هي توقيفية ، أو اصطلاحية ، وعلى القولين ، فلا طريق إليها إلا النقل فقط ، وعلى القول بالتفصيل كذلك ; لأنه راجع إلى القولين .

وإذا عرفت هذا علمت أن الحق منع إثبات اللغة بالقياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية