إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسألة الرابعة : في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص

اختلفوا في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب :

المذهب الأول : أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام ، وإليه ذهب الأكثر ، وحكاه الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي .

قال : وإليه مال إمام الحرمين ، ونقله الرازي عن أبي الحسين البصري ، ونقله ابن برهان عن المعتزلة .

قال الأصفهاني : ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد ، نعم اختاره الغزالي ، والرازي .

المذهب الثاني : أن العام إن كان مفردا كمن ، والألف واللام ، نحو : اقتل من في الدار ، واقطع السارق ، جاز التخصيص إلى أقل المراتب ، وهو واحد ; لأن الاسم يصلح لهما جميعا ، وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين ، جاز إلى أقل الجمع ، وذلك إما [ ص: 414 ] ثلاثة أو اثنان على الخلاف ، قاله القفال الشاشي ، وابن الصباغ .

قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني : لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد ، فيما إذا لم تكن الصيغة جمعا كمن ، والألف واللام .

المذهب الثالث : التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء ، والبدل ، فيجوز إلى الواحد ، وإلا فلا يجوز ، قال الزركشي حكاه ابن المطهر ، وهذا المذهب داخل في المذهب السادس كما سيأتي .

المذهب الرابع : أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقا ، على حسب اختلافهم في أقل الجمع ، حكاه ابن برهان ، وغيره .

المذهب الخامس : أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم ، حكاه إمام الحرمين في التلخيص عن معظم أصحاب الشافعي قال : وهو الذي اختاره الشافعي ، ونقله ابن السمعاني في القواطع عن سائر أصحاب الشافعي ما عدا القفال ، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في أصول عن إجماع الشافعية ، وحكاه ابن الصباغ في العدة عن أكثر الشافعية ، وصححه القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق ، ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور .

المذهب السادس : إن كان التخصيص بمتصل ، فإن كان بالاستثناء أو البدل ، جاز إلى الواحد ، نحو : أكرم الناس إلا الجهال ، وأكرم الناس إلا تميما ، وإن كان بالصفة أو الشرط ، فيجوز إلى اثنين ، نحو : أكرم القوم الفضلاء ، أو إذا كانوا فضلاء .

وإن كان التخصيص بمنفصل ، وكان في العام المحصور القليل كقولك : قتلت كل زنديق ، وكانوا ثلاثة أو أربعة ، ولم تقتل سوى اثنين ، جاز إلى اثنين ، وإن كان العام غير محصور أو كان محصورا كثيرا ، جاز ، بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام ، هكذا ذكره ابن الحاجب ، واختاره .

[ ص: 415 ] قال الأصفهاني في شرح المحصول : ولا نعرفه لغيره .

احتج الأولون بأنه لو قال قائل : قتلت كل من في المدينة ، ولم يقتل إلا ثلاثة ، عد لاغيا مخطئا في كلامه ، وهكذا لو قال : أكرمت كل العلماء ، ولم يكرم إلا ثلاثة ، أو قتلت جميع بني تميم ، ولم يقتل إلا ثلاثة .

واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة : بأن ذلك أقل الجمع على الخلاف المتقدم .

ويجاب : بأن ذلك خارج عن محل النزاع ، فإن الكلام إنما هو في العام ، والجمع ليس بعام ، ولا تلازم بينهما .

واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد : بأنه يجوز أن يقول : أكرم الناس إلا الجهال ، وإن كان العالم واحدا .

ويجاب عنه : بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام موجودا في الخارج ، ومثل هذه الصورة اتفاقية ، ولا يعتبر بها ، فالناس هاهنا ليس بعام ، بل هو للمعهود ، كما في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس فإن المراد بالناس المعهود ، وهو نعيم بن مسعود ، والمعهود ليس بعام .

واستدلوا أيضا : بأنه يجوز أن يقول القائل : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز .

وأجيب عن ذلك : بأنه غير محل النزاع ، فإن كل واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام ، بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود الذهني ، وهو الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب ، وهو مقدار معلوم .

والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام أنه لا بد أن يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولا للعام ، ولو في بعض الحالات ، وعلى بعض التقادير ، كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية ، والكلمات العربية ، ولا وجه لتقييد الباقي بكونه أكثر مما قد [ ص: 416 ] خصص ، أو بكونه أقرب إلى مدلول العام ، فإن هذه الأكثرية والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر والأقرب هما مدلولا العام على التمام ، فإنه بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده ، كما يصير غير شامل لها عند إخراج أكثرها ، ولا يصح أن يقال هاهنا : إن الأكثر في حكم الكل ; لأن النزاع في مدلول اللفظ ، ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد التخصيص من باب الحقيقة أو المجاز ، ولو كان المخرج فردا واحدا .

وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد بكون الباقي بعد التخصيص أكثر أو أقرب إلى مدلول العام ، عرفت أيضا أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعا ; لأن النزاع في معنى العموم ، لا في معنى الجمع ، ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون الصيغة مفردة لفظا كمن ، وما ، والمعرف باللام ، وبين كونها غير مفردة ، فإن هذه الصيغ التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة ، والاعتبار إنما هو بالمعاني لا بمجرد الألفاظ .

التالي السابق


الخدمات العلمية