إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 429 ] المسألة التاسعة : في الاختلاف في الاستثناء من النفي

اتفقوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي .

وأما الاستثناء من النفي ، فذهب الجمهور إلى أنه إثبات ، وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء لا يكون إثباتا ، وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة ، وهي عدم الحكم ، قالوا : فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه ، لا بالنفي ولا بالإثبات .

واختلف كلام فخر الدين الرازي فوافق الجمهور في المحصول ، واختار مذهب الحنفية في تفسيره .

[ ص: 430 ] والحق ما ذهب إليه الجمهور ، ودعوى الواسطة مردودة ، على أنها لو كان لها وجه لكان مثل ذلك لازما في الاستثناء من الإثبات ، واللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله .

وأيضا نقل الأئمة عن اللغة يخالف ما قالوه ، ويرد عليه ، ولو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لم تكن كلمة التوحيد توحيدا ، فإن قولنا : لا إله إلا الله ، هو استثناء من نفي ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .

وقد استدلت الحنفية بأن الاستثناء هو مأخوذ من قولك : ثنيت الشيء ، إذا صرفته عن وجهه ، فإذا قلت : لا عالم إلا زيد ، فهاهنا أمران : أحدهما : هذا الحكم .

والثاني : نفس العلم .

فقولك : إلا زيد ، يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول ، وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت ، إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعلم ، فيبقى المستثنى مسكوتا عنه ، غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات ، ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثاني ، وحينئذ يلزم تحقق الثبوت ; لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة ; لكون عود الاستثناء إلى الأول أولى ، إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية ، لا على الأعيان الخارجية ، فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى .

وحكى عنهم الرازي في المحصول أنهم احتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا نكاح إلا بولي ، ولا صلاة إلا بطهور ، ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ، ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء ، بل يدل على عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين .

[ ص: 431 ] هكذا حكى عنهم في المحصول ، ولم يتعرض للرد عليهم .

ويجاب عن الأول : بمنع ما قالوه ، ولو سلم أنه لا يستفاد الإثبات من الوضع اللغوي ، لكان مستفادا من الوضع الشرعي .

وعن الثاني : بأنه إن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع الشرعي ، فلا بد من اعتبار تمام ما اشترط الشرع في النكاح والصلاة ، وإن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع اللغوي ، فدخول الباء في المستثنى قد أفاد معنى غير المعنى الذي مع عدمها ، فإن دخولها ليس بمخرج مما قبله ; لأنا لم نقل لا نكاح إلا الولي ، ولا صلاة إلا الطهور ، بل قلنا إلا بولي ، وإلا بطهور ، فلا بد من تقدير متعلق هو المستثنى منه ، فيكون التقدير : لا نكاح يثبت بوجه إلا مقترنا بولي ، أو نحو ذلك من التقديرات .

قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام : وكل هذا عندي تشغيب ، ومراوغات جدلية ، والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة - يعني كلمة الشهادة - وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد ، وحصل الفهم منهم بذلك ، والقبول له من غير زيادة ، ولا احتياج إلى أمر آخر ، ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه ; لأنه المقصود الأعظم .

التالي السابق


الخدمات العلمية