إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 82 ] [ ص: 83 ]

اعلم أن اللفظ إن قصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه ، فهو مركب ، وإلا فهو مفرد . والمفرد : إما واحد ، أو متعدد ، وكذلك معناه ، فهذه أربعة أقسام :

الأول : الواحد للواحد ، إن لم يشترك في مفهومه كثيرون لا محققا ، ولا مقدرا ، فمعرفة لتعينه إما مطلقا ، أي وضعا واستعمالا ، فعلم ( شخصي ، وجزئي ) حقيقي ، إن كان فردا أو مضافا بوضعه الأصلي ، سواء كان العهد ، أي اعتبار الحضور لنفس الحقيقة ، أو لحصة منها معينة مذكورة ، أو في حكمها ، أو مبهمة من حيث الوجود ، معينة من حيث التخصيص ، أو لكل من الحصص ، وإما بالإشارة الحسية فاسمها ، وإما بالعقلية فلا بد من دليلها سابقا كضمير الغائب ، أو معا كضميري المخاطب والمتكلم ، أو لاحقا كالموصولات .

وإن اشترك في مفهومه كثيرون تحقيقا أو تقديرا فكلي ، فإن تناول الكثير على أنه واحد فجنس ، وإلا فاسم الجنس .

وأيا ما كان فتناوله لجزئياته : إن كان على وجه التفاوت بأولية ، أو أولوية ، أو أشدية ، فهو المشكك ، وإن كان تناوله لها على السوية ، فهو المتواطئ .

وكل واحد من هذه الأقسام إن لم يتناول - وضعا - إلا فردا معينا فخاص ، خصوص البعض ، وإن تناول الأفراد واستغرقها فعام سواء استغرقها مجتمعة ، أو على سبيل البدل ، والأول يقال له العموم الشمولي ، والثاني البدلي ، وإن لم يستغرقها ، فإن تناول مجموعا غير محصور فيسمى عاما عند من لم يشترط الاستغراق ، كالجمع المنكر ، وعند من اشترط واسطة .

والراجح : أنه خاص ; لأن دلالته على أقل الجمع قطعية ، كدلالة المفرد على الواحد .

وإن لم يتناول مجموعا ، بل واحدا ، أو اثنين ، أو يتناول محصورا ، فخاص خصوص [ ص: 84 ] الجنس ، أو النوع .

الثاني : اللفظ المتعدد للمعنى المتعدد ، ويسمى المتباين ، سواء تفاصلت أفراده كالإنسان والفرس ، أو تواصلت كالسيف والصارم .

الثالث : اللفظ الواحد للمعنى المتعدد ، فإن وضع لكل فمشترك ، وإلا فإن اشتهر في الثاني فمنقول ينسب إلى ناقله ، وإلا فحقيقة ومجاز .

الرابع : اللفظ المتعدد للمعنى الواحد ، ويسمى المترادف .

وكل من الأربعة ينقسم إلى مشتق ، وغير مشتق ، وإلى صفة وغير صفة .

ثم دلالة اللفظ على تمام ما وضع له : مطابقة ، وعلى جزئه : تضمن ، وعلى الخارج : التزام .

وجميع ما ذكرنا هاهنا قد بين في علوم معروفة ، فلا نطيل البحث فيه . ولكنا نذكر هاهنا خمس مسائل تتعلق بهذا العلم تعلقا تاما .

المسألة الأولى : في الاشتقاق

الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب ، فترد أحدهما إلى الآخر .

وأركانه أربعة : أحدها : اسم موضوع لمعنى .

وثانيها : شيء آخر له نسبة إلى ذلك المعنى .

وثالثها : مشاركة بين هذين الاسمين في الحروف الأصلية .

ورابعها : تغيير يلحق ذلك الاسم في حرف فقط ، أو حركة فقط ، أو فيهما معا .

[ ص: 85 ] وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إما أن يكون بالزيادة ، أو النقصان ، أو بهما معا ، فهذه تسعة أقسام : أحدها : زيادة الحركة . ثانيها : زيادة الحرف . ثالثها : زيادتهما . رابعها : نقصان الحركة . خامسها : نقصان الحرف . سادسها : نقصانهما . سابعها : زيادة الحركة مع نقصان الحرف . ثامنها : زيادة الحرف مع نقصان الحركة ، تاسعها : أن يزاد فيه حركة وحرف وينقص عنه حركة وحرف .

وقيل تنتهي أقسامه إلى خمسة عشر ، وذلك لأنه يكون إما بحركة ، أو حرف بزيادة ، أو نقصان ، أو بهما ، والتركيب مثنى ، وثلاث ، ورباع .

وينقسم إلى الصغير والكبير والأكبر ; لأن المناسبة أعم من الموافقة ، فمع الموافقة في [ ص: 86 ] الحروف والترتيب صغير ، وبدون الترتيب كبير ، نحو : جذب وجبذ ، وكنى ونكى ، وبدون الموافقة أكبر لمناسبة ما كالمخرج في ثلم وثلب ، أو الصفة كالشدة في الرجم والرقم ، فالمعتبر في الأولين الموافقة ، وفي الأخير المناسبة .

والاشتقاق الكبير والأكبر ليس من غرض الأصولي ; لأن المبحوث عنه في الأصول إنما هو المشتق بالاشتقاق الصغير .

واللفظ ينقسم إلى قسمين :

صفة : وهي ما دل على ذات مبهمة غير معينة ، بتعيين شخصي ، ولا جنسي ، متصفة بمعين كضارب ، فإن معناه : ذات ثبت لها الضرب .

وغير صفة : وهو ما لا يدل على ذات مبهمة ، متصفة بمعين .

ثم اختلفوا ، هل بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم المشتق ، فيكون للمباشر حقيقة اتفاقا ، وفي الاستقبال مجازا اتفاقا ، وفي الماضي الذي قد انقطع خلاف مشهور بين الحنفية والشافعية ، فقالت الحنفية : مجاز . وقالت الشافعية : حقيقة ، وإليه ذهب ابن سينا من الفلاسفة وأبو هاشم من المعتزلة .

احتج القائلون بالاشتراط : بأن الضارب بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب ، وإذا صدق عليه ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب ; لأن قولنا [ ص: 87 ] ضارب يناقضه - في العرف - قولنا ليس بضارب .

وأجيب : بمنع أن نفيه في الحال يستلزم نفيه مطلقا ؛ فإن الثبوت في الحال أخص من الثبوت مطلقا ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم إلا أن يراد النفي المقيد بالحال لا نفي المقيد بالحال .

وأجيب أيضا : بأن اللازم النفي في الجملة ، ولا ينافي الثبوت في الجملة إلا أن الاعتبار بالمنافاة في اللغة لا في العقل .

واحتجوا ثانيا : بأنه لو صح إطلاق المشتق إطلاقا حقيقيا باعتبار ما قبله لصح باعتبار ما بعده ، ولا يصح اتفاقا .

وأجيب : بمنع الملازمة ; فإنه قد يشترط المشترك بين الماضي والحال ، وهو كونه ثبت له الضرب .

واحتج النافون بإجماع أهل اللغة : على صحة " ضارب أمس " ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .

وأجيب : بأنه مجاز بدليل إجماعهم على صحة " ضارب غدا " ، وهو مجاز اتفاقا ، ويجاب عنه بأن مجازيته لعدم تلبسه بالفعل ، لا في الحال ، ولا في الماضي ، فلا يستلزم مجازية " ضارب أمس " .

والحق أن إطلاق المشتق على الماضي الذي قد انقطع حقيقة لاتصافه بذلك في الجملة .

وقد ذهب قوم إلى التفصيل ، فقالوا : إن كان معناه ممكن البقاء اشترط بقاؤه ، فإذا مضى وانقطع فمجاز ، وإن كان غير ممكن البقاء لم يشترط بقاؤه ، فيكون إطلاقه عليه حقيقة .

وذهب آخرون إلى الوقف ولا وجه له ، فإن أدلة صحة الإطلاق الحقيقي على ما مضى وانقطع ظاهرة قوية .

التالي السابق


الخدمات العلمية