إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 526 ] المسألة الرابعة

في أنواع مفهوم المخالفة

( النوع الأول ) : مفهوم الصفة .

وهي تعليق الحكم على الذات بأحد الأوصاف ، نحو : " في سائمة الغنم زكاة " والمراد بالصفة عند الأصوليين : تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر ، يختص ببعض معانيه ، ليس بشرط ، ولا غاية ، ولا يريدون به النعت فقط ، وهكذا عند أهل البيان ، فإن المراد بالصفة عندهم هي المعنوية ، لا النعت ، وإنما يخص الصفة بالنعت أهل النحو فقط .

وبمفهوم الصفة أخذ الجمهور ، وهو الحق ; لما هو معلوم من لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان ; فوصف بأحدهما دون الآخر ; كان المراد به ما فيه تلك الصفة دون الآخر .

وقال أبو حنيفة وأصحابه وبعض الشافعية ، والمالكية : إنه لا يؤخذ به ، ولا يعمل عليه ، ووافقهم من أئمة اللغة الأخفش بن فارس ، وابن جني .

وقال الماوردي من الشافعية : بالتفصيل بين أن يقع ذلك جواب سؤال فلا يعمل به ; وبين أن يقع ابتداء فيعمل به ; لأنه لا بد لتخصيصه بالذكر من موجب .

وفي جعل هذا التفصيل مذهبا مستقلا نظر ، فإنه قد تقدم أن من شرط الأخذ بالمفهوم عند القائلين به أن لا يقع جوابا لسؤال .

وقال أبو عبد الله البصري : إنه حجة في ثلاث صور :

أن يرد مورد البيان ، كقوله : " في سائمة الغنم الزكاة " ، أو مورد التعليم ، كقوله [ ص: 527 ] - صلى الله عليه وآله وسلم - في خبر التحالف والسلعة قائمة ، أو يكون ما عدا الصفة داخلا تحت الصفة ، كالحكم بالشاهدين ، فإنه يدل على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد ; لأن الداخل تحت الشاهدين ، ولا يدل على نفي الحكم فيما سوى ذلك .

وقال إمام الحرمين الجويني : بالتفصيل بين الوصف المناسب وغيره ، فقال بمفهوم الأول دون الثاني ، وعليه يحمل نقل الرازي عنه للمنع ، ونقل ابن الحاجب عنه الجواز .

وقد طول أهل الأصول الكلام على استدلال هؤلاء المختلفين لما قالوا به ، وليس في ذلك حجة واضحة ; لأن المبحث لغوي ، واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة ، وعملهم به معلوم لكل من له علم بذلك .

( النوع الثاني ) : مفهوم العلة .

وهو تعليق الحكم بالعلة ، نحو حرمت الخمر لإسكارها ، والفرق بين هذا النوع والنوع الأول ، أن الصفة قد تكون علة كالإسكار ، وقد لا تكون علة بل متممة كالسوم ، فإن الغنم هي العلة ، والسوم متمم لها .

قال القاضي أبو بكر الباقلاني ، والغزالي : والخلاف فيه وفي مفهوم الصفة واحد .

( النوع الثالث ) : مفهوم الشرط .

والشرط في اصطلاح المتكلمين : ما يتوقف عليه المشروط ، ولا يكون داخلا في المشروط ، ولا مؤثرا فيه .

وفي اصطلاح النحاة : ما دخل عليه أحد الحرفين " إن " أو " إذا " أو ما يقوم مقامهما ، مما يدل على سببية الأول ، ومسببية الثاني ، وهذا هو الشرط اللغوي ، وهو المراد هنا ، لا الشرعي ولا العقلي ، وقد قال به القائلون بمفهوم الصفة ، ووافقهم على القول به بعض من خالف في مفهوم الصفة ، ولهذا نقله أبو الحسين السهيلي في [ ص: 528 ] آداب الجدل عن أكثر الحنفية .

ونقله ابن القشيري عن معظم أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء .

وذهب أكثر المعتزلة ، كما نقله عنهم صاحب المحصول إلى المنع من الأخذ به .

ورجح المنع المحققون من الحنفية ، وروي عن أبي حنيفة ، ونقله ابن التلمساني عن مالك ، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني ، والغزالي ، والآمدي .

وقد بالغ إمام الحرمين في الرد على المانعين ، ولا ريب أنه قول مردود ، وكل ما جاءوا به لا تقوم به الحجة ، والأخذ به معلوم من لغة العرب والشرع ، فإن من قال لغيره : إن أكرمتني أكرمتك ، ومتى جئتني أعطيتك . ونحو ذلك مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف بين كل من يفهم لغة العرب ، وإنكار ذلك مكابرة ، وأحسن ما يقال لمن أنكره : عليك بتعلم لغة العرب ، فإن إنكارك لهذا يدل على أنك لا تعرفها .

( النوع الرابع ) : مفهوم العدد :

وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص ، فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد ، زائدا كان أو ناقصا .

وقد ذهب إليه الشافعي ، كما نقله عنه أبو حامد ، وأبو الطيب الطبري ، والماوردي ، وغيرهم .

ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن أحمد بن حنبل ، وبه قال مالك وداود الظاهري ، وبه قال صاحب الهداية من الحنفية ، ومنع من العمل به المانعون بمفهوم الصفة .

[ ص: 529 ] قال الشيخ أبو حامد ، وابن السمعاني : وهو دليل كالصفة سواء .

والحق ما ذهب إليه الأولون ، والعمل به معلوم من لغة العرب ، ومن الشرع ، فإن من أمر بأمر ، وقيده بعدد مخصوص ، فزاد المأمور على ذلك العدد ، أو نقص عنه ، فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص ; كان هذا الإنكار مقبولا عند كل من يعرف لغة العرب ، فإن ادعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به ، مع كونه نقص عنه أو زاد عليه ; كانت دعواه هذه مردودة عند كل من يعرف لغة العرب .

( النوع الخامس ) : مفهوم الغاية :

وهو مد الحكم " بإلى " أو " حتى " .

وغاية الشيء آخره ، وإلى العمل به ذهب الجمهور ، وبه قال بعض من لم يعمل بمفهوم الشرط ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني ، والغزالي ، والقاضي عبد الجبار ، وأبي الحسين .

قال ابن القشيري : وإليه ذهب معظم نفاة المفهوم ، وكذا قال القاضي أبو بكر حاكيا لذلك .

وحكى ابن برهان وصاحب المعتمد الاتفاق عليه .

قال سليم الرازي لم يختلف أهل العراق في ذلك .

وقال القاضي في التقريب : صار معظم نفاة دليل الخطاب إلى أن التقييد بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية . قال : ولهذا أجمعوا على تسميتها ( حروف الغاية ، وغاية الشيء نهايته ، فلو ثبت الحكم بعدها لم تعد تسميتها ) غاية ، وهذا من توقيف اللغة معلوم ، فكان بمنزلة قولهم : تعليق الحكم بالغاية موضوع للدلالة على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها . انتهى .

ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحنفية ، والآمدي ، ولم يتمسكوا بشيء يصلح للتمسك به قط ، بل صمموا على منعه طردا لباب المنع ، من العمل بالمفاهيم ، وليس ذلك بشيء .

[ ص: 530 ] ( النوع السادس ) : مفهوم اللقب :

وهو تعليق الحكم بالاسم العلم ، نحو : قام زيد ، أو اسم النوع ، نحو " في الغنم زكاة " ولم يعمل به أحد إلاأبو بكر الدقاق كذا قيل .

وقال سليم الرازي في التقريب صار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا يعني الشافعية ، وكذا حكاه عن بعض الشافعية ابن فورك ثم قال : وهو الأصح . قال إلكيا الطبري في التلويح إن ابن فورك كان يميل إليه ، وحكاه السهيلي في نتائج الفكر عن أبي بكر الصيرفي ونقله عبد العزيز في التحقيق عن أبي حامد المروزي .

قال الزركشي والمعروف عن أبي حامد إنكار القول بالمفهوم مطلقا .

وقال إمام الحرمين الجويني في البرهان وصار إليه الدقاق ، وصار إليه طوائف من أصحابنا ، ونقله أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد عن منصوص أحمد ، قال : وبه قال مالك ، وداود ، وبعض الشافعية انتهى .

ونقل القول به عن ابن خويز منداد ، والباجي ، وابن القصار .

وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية ، وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص .

وحكى ابن حمدان . وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلا آخر ، وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره .

والحاصل : أن القائل به كلا أو بعضا ، لم يأت بحجة لغوية ، ولا شرعية ، ولا عقلية ، ومعلوم من لسان العرب أن من قال رأيت زيدا لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا ، [ ص: 531 ] وأما إذا دلت القرينة على العمل به ، فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع .

( النوع السابع ) : مفهوم الحصر .

وهو أنواع ، أقواها " ما " و " إلا " نحو : ما قام إلا زيد ، وقد وقع الخلاف فيه هل هو من قبيل المنطوق ، أو المفهوم ؟

وبكونه منطوقا جزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الملخص ، ورجحه القرافي في القواعد .

وذهب الجمهور إلى أنه من قبيل المفهوم ، وهو الراجح ، والعمل به معلوم من لغة العرب ، ولم يأت من لم يعمل به بحجة مقبولة .

ثم الحصر بـ " إنما " وهو قريب مما قبله في القوة .

قال إلكيا الطبري : وهو أقوى من مفهوم الغاية .

وقد نص عليه الشافعي في الأم ، وصرح هو وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي " بما " و " إلا " .

وذهب ابن سريج وأبو حامد المروزي [ إلى ] أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل ، لما تضمنه من الاحتمال ، وقد وقع الخلاف هل هو منطوق أو مفهوم ، والحق أنه مفهوم ، وأنه معمول به كما يقتضيه لسان العرب .

ثم حصر المبتدأ في الخبر ، وذلك بأن يكون معرفا باللام ، أو الإضافة ، نحو : العالم زيد ، وصديقي عمرو ، فإنه يفيد الحصر ، إذ المراد بالعالم وبصديقي هو الجنس ، فيدل على العموم إذ لم تكن هناك قرينة تدل على العهد ، فهو يدل بمفهومه على نفي العلم عن غير زيد ، ونفي الصداقة عن غير عمرو ، وذلك أن الترتيب الطبعي أن يقدم الموصوف على الوصف ، فإذا قدم الوصف على الموصوف معرفا باللام أو بالإضافة ; أفاد العدول مع ذلك التعريف أن نفي ذلك الوصف عن غير الموصوف مقصود للمتكلم ، وقيل : إنه يدل على ذلك بالمنطوق .

والحق أن دلالته مفهومية لا منطوقية ، وإلى ذلك ذهب جماعة من الفقهاء [ ص: 532 ] والأصوليين ، ومنهم إمام الحرمين الجويني ، والغزالي ، وأنكره جماعة ، منهم القاضي أبو بكر الباقلاني ، والآمدي وبعض المتكلمين ، والكلام في تحقيق أنواع الحصر محرر في " علم البيان " وله صور غير ما ذكرناه هاهنا ، وقد تتبعتها من مؤلفاتهم ، ومن مثل كشاف الزمخشري وما هو على نمطه ، فوجدتها تزيد على خمسة عشر نوعا ، وجمعت في تقرير ذلك بحثا .

( النوع الثامن ) : مفهوم الحال :

أي تقييد الخطاب بالحال ، وقد عرفت أنه من جملة مفاهيم الصفة ; لأن المراد الصفة المعنوية لا النعت ، وإنما أفردناه بالذكر تكميلا للفائدة .

قال ابن السمعاني : ولم يذكره المتأخرون لرجوعه إلى الصفة ، وقد ذكره سليم الرازي في التقريب وابن فورك .

( النوع التاسع ) : مفهوم الزمان : كقوله تعالى : الحج أشهر معلومات وقوله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وهو حجة عند الشافعي ، كما نقله الفخر الرازي والغزالي ، وهو في التحقيق داخل في مفهوم الصفة ، باعتبار متعلق الظرف المقدر ، كما تقرر في علم العربية .

( النوع العاشر ) : مفهوم المكان :

نحو " جلست أمام زيد " وهو حجة عند الشافعي ، كما نقله الغزالي ، وفخر الدين الرازي ، ومن ذلك لو قال : بع في مكان كذا ، فإنه يتعين ، وهو أيضا راجع إلى مفهوم الصفة ، لما عرفت في النوع الذي قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية