إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 533 ] الباب التاسع

من المقصد الرابع

في النسخ

وفيه سبع عشرة مسألة

المسألة الأولى

في حده

وهو في اللغة الإبطال والإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظل ، والريح آثار القدم ، ومنه تناسخ القرون ، وعليه اقتصر العسكري ، ويطلق ويراد به النقل والتحويل ، ومنه نسخت الكتاب ، أي نقلته ومن قوله تعالى : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ومنه تناسخ المواريث .

ثم اختلفوا ، هل هو حقيقة في المعنيين أم في أحدهما دون الآخر ، فحكى الصفي الهندي عن الأكثرين أنه حقيقة في الإزالة ، مجاز في النقل .

وقال القفال الشاشي : إنه حقيقة في النقل .

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ، والقاضي عبد الوهاب ، والغزالي : إنه حقيقة فيهما ، مشترك بينهما لفظا ; لاستعماله فيهما .

وقال ابن المنير في شرح البرهان : إنه مشترك بينهما اشتراكا معنويا ; لأن بين نسخ الشمس الظل ، ونسخ الكتاب مقدارا مشتركا ، وهو الرفع ، وهو في الظل بين ; لأنه زال بضده ، وفي نسخ الكتاب متعذر ، من حيث إن الكلام المنسوخ بالكتابة لم يكن مستفادا إلا من الأصل ، فكان للأصل بالإفادة خصوصية ، فإذا نسخت الأصل ارتفعت تلك الخصوصية ، وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع .

[ ص: 534 ] وقيل : القدر المشترك بينهما هو التغيير ، وقد صرح به الجوهري .

قال في المحصول : فإن قيل : وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار ( والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز ; لأن المزيل للآثار والظل ) هو الله تعالى ، وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ، ثم نعارض ما ذكرتموه ، ونقول : النسخ هو : النقل والتحويل ، ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر ، كأنك تنقله إليه ، أو تنقل حكايته ، ومنه تناسخ الأرواح ، وتناسخ القرون ، قرنا بعد قرن ، وتناسخ المواريث ، إنما هو التحول من واحد إلى آخر ، بدلا عن الأول ، فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ، ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة ، دفعا للاشتراك ، وعليكم الترجيح .

الجواب عن الأول من وجهين .

( أحدهما ) : أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك ، من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين ( في تلك الإزالة ويكونان أيضا ناسخين ; لكونهما مختصين بذلك التأثير . وثانيهما أن أهل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح ) . فهب أنه كذلك ، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة ، لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس .

وعن الثاني : أن النقل أخص من الزوال ; لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة حصلت عقيبها صفة أخرى ، فإذا مطلق العدم أعم من عدم تحصل شيء آخر عقيبه ، وإذا اللفظ بين العام والخاص ، كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في الخاص ، على ما تقدم تقريره في كتاب اللغات . انتهى .

وأما في الاصطلاح : فقال جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني ، والصيرفي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، والغزالي ، والآمدي ، وابن الأنباري وغيرهم : هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع [ ص: 535 ] تراخيه عنه ، وإنما آثروا الخطاب على النص ، ليكون شاملا للفظ ، والفحوى ، والمفهوم ، فإنه يجوز نسخ جميع ذلك .

وقالوا : الدال على ارتفاع الحكم ; ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم .

وقالوا بالخطاب المتقدم ; ليخرج إيجاب العبادات ابتداء فإنه يزيل حكم العقل ببراءة الذمة ، ولا يسمى نسخا ; لأنه لم يزل حكم خطاب .

وقالوا : على وجه لولاه لكان ثابتا ; لأن حقيقة النسخ الرفع ، وهو إنما يكون رافعا لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي .

وقالوا مع تراخيه عنه ; لأنه لو اتصل لكان بيانا لمدة العبادة لا نسخا . وقد اعترض على هذا الحد بوجوه :

( الأول ) : أن النسخ هو نفس الارتفاع ، والخطاب إنما هو دال على الارتفاع ، وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع .

( الثاني ) : أن التقييد بالخطاب خطأ ; لأن النسخ قد يكون فعلا ، كما يكون قولا .

( الثالث ) : أن الأمة إذا اختلفت على قولين ، ثم أجمعت بعد ذلك على أحدهما ، فهذا الإجماع خطاب ، مع أن الإجماع لا ينسخ به .

( الرابع ) : أن الحكم الأول قد يثبت بفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وليس بخطاب .

قال الرازي في المحصول : والأولى أن يقال : الناسخ طريق شرعي ، يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك ، مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا .

وفيه أن قوله مثل الحكم ( الذي إلخ ) يشمل ما كان مماثلا له في وجه من الوجوه ، فلا يتم النسخ لحكم إلا برفع جميع المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلة عليه .

[ ص: 536 ] وقال الزركشي : المختار في حده اصطلاحا : أنه رفع الحكم الشرعي بخطاب .

وفيه : أن الناسخ قد يكون فعلا لا خطابا ، وفي أيضا أنه أهمل تقييده بالتراخي ، ولا يكون نسخ إلا به .

وقال ابن الحاجب في مختصر المنتهى : إنه في الاصطلاح : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر .

واعترض عليه : بأن الحكم راجع إلى كلام الله سبحانه ، وهو قديم ، والقديم لا يرفع ولا يزول .

وأجيب : بأن المرفوع تعلق الحكم بالمكلف لا ذاته ، ولا تعلقه الذاتي .

وقال جماعة : هو في الاصطلاح : الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي ، مع التأخير عن موارده . ويرد على قيد الخطاب ما تقدم ، فالأولى أن يقال : هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية