إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 580 ] [ ص: 581 ] الفصل الثاني

في حجية القياس

اعلم أنه قد وقع الاتفاق على أنه حجة في الأمور الدنيوية .

قال الفخر الرازي : كما في الأدوية ، والأغذية .

وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإنما وقع الخلاف في القياس الشرعي : فذهب الجمهور من الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء ، والمتكلمين إلى ( أن القياس الشرعي ) أصل من أصول الشريعة ، يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع .

قال في المحصول : اختلف الناس في القياس الشرعي : فقالت طائفة : العقل يقتضي جواز التعبد به في الجملة ، وقالت طائفة : العقل يقتضي المنع من التعبد به ، والأولون قسمان ، منهم من قال : وقع التعبد به ، ومنهم من قال : لم يقع .

أما من اعترف بوقوع التعبد به ، فقد اتفقوا على أن السمع دل عليه ، ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع :

( الأول ) : أنه هل في العقل ما يدل عليه ، فقال القفال منا ، وأبو الحسين البصري ، من المعتزلة : العقل يدل على وجوب العمل به ، وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك .

( والثاني ) : أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية ، والباقون قالوا : قطعية .

( والثالث ) : أن القاساني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين :

[ ص: 582 ] ( إحداهما ) : إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ ، أو بإيمائه .

( والصورة الثانية ) : كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف ، وأما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة .

وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به ، فمنهم من قال : لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به ، فوجب الامتناع من العمل به .

ومنهم من لم يقنع بذلك ، بل تمسك في نفيه بالكتاب ، والسنة ، وإجماع الصحابة ، وإجماع العترة .

( وأما القسم الثاني ) : وهم الذين قالوا : بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به ، فهم فريقان :

( أحدهما ) : خصص ذلك المنع بشرعنا ، وقال : لأن مبنى شرعنا الجمع بين المختلفات ، والفرق بين المتماثلات ، وذلك يمنع من القياس ، وهو قول النظام ، والفريق الثاني : الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع انتهى .

قال الأستاذ أبو منصور : المثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب :

( أحدها ) : ثبوته في العقليات ، والشرعيات ، وهو قول أصحابنا من الفقهاء ، والمتكلمين ، وأكثر المعتزلة .

( والثاني ) : ثبوته في العقليات ، دون الشرعيات ، وبه قال جماعة من أهل الظاهر .

( والثالث ) : نفيه في العلوم العقلية ، وثبوته في الأحكام الشرعية ، التي ليس فيها نص ، ولا إجماع ، وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية .

( والرابع ) : نفيه في العقليات والشرعيات .

وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني انتهى .

والمثبتون له اختلفوا أيضا .

قال الأكثرون : هو دليل بالشرع .

وقال القفال وأبو الحسين البصري : هو دليل بالعقل ، والأدلة السمعية وردت مؤكدة له .

[ ص: 583 ] وقال الدقاق : يجب العمل به بالعقل والشرع ، وجزم به ابن قدامة في الروضة ، وجعله مذهب أحمد بن حنبل لقوله : لا يستغني أحد عن القياس . قال : وذهب أهل الظاهر ، والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا ، وإليه ميل أحمد بن حنبل لقوله : يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس .

وقد تأوله القاضي أبو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص; لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار .

ثم اختلف القائلون به أيضا اختلافا آخر ، وهو دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية ، فذهب الأكثرون إلى الأول ، وذهب أبو الحسين والآمدي إلى الثاني .

وأما المنكرون للقياس ، فأول من باح بإنكار " النظام " وتابعه قوم من المعتزلة ، كجعفر بن حرب ، وجعفر بن حبشة ومحمد بن عبد الله الإسكافي وتابعهم على نفيه في الأحكام داود الظاهري .

قال أبو القاسم البغدادي فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم ما علمت أحدا سبق النظام إلى القول بنفي القياس .

قال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم أيضا : " لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد ، وإثباته في الأحكام إلا داود ، فإنه نفاه فيهما جميعا .

قال : ومنهم من أثبته في التوحيد ، ونفاه في الأحكام .

[ ص: 584 ] وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود النهرواني ، والمغربي والقاساني : أن القياس محرم بالشرع .

قال الأستاذ أبو منصور : وأما داود فزعم أنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن ، أو السنة ، أو معدول عنه بفحوى النص ودليله ، وذلك يغني عن القياس .

قال ابن القطان : ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله باطل ، ولا يجوز القول به . قال ابن حزم في الأحكام : ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة ، وهو قولنا الذي ندين الله به ، والقول بالعلل باطل انتهى .

والحاصل : أن داود الظاهري وأتباعه لا يقولون بالقياس ، ولو كانت العلة منصوصة .

ونقل القاضي أبو بكر ، والغزالي ، عن القاساني ، والنهرواني : القول به فيما إذا كانت العلة منصوصة .

وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية ، ولا حاجة لهم إلى الاستدلال ، فالقيام في مقام المنع يكفيهم ، وإيراد الدليل على القائلين بها ، وقد جاءوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة ، فلا نطول البحث بذكرها .

[ ص: 585 ] وجاءوا بأدلة نقلية ، فقالوا : دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب ، والسنة والإجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية