إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 590 ] [ الأدلة على حجية القياس من السنة ] وإذا عرفت الكلام على ما استدلوا به من الكتاب العزيز لإثبات القياس ، فاعلم أنهم قد استدلوا لإثباته من السنة بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فيما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي ، وغيرهم من حديث الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة قال : حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال : لما بعثه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ، قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله ، ولا في كتاب الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صدره ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله .

[ ص: 591 ] والكلام في إسناد هذا الحديث يطول ، وقد قيل : إنه مما تلقي بالقبول .

وأجيب عنه : بأن اجتهاد الرأي هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية .

ورد بأنه إنما قال : أجتهد رأيي بعد عدم وجوده لذلك الحكم في الكتاب والسنة ، وما دلت عليه النصوص الخفية لا يجوز أن يقال : إنه غير موجود في الكتاب والسنة .

وأجيب عن هذا الرد : بأن القياس عند القائلين به مفهوم من الكتاب والسنة ، فلا بد من حمل الاجتهاد في الرأي على ما عدا القياس فلا يكون الحديث حجة لإثباته ، [ ص: 592 ] واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة ، ويكون بالتمسك بالبراءة الأصلية ، أو بأصالة الإباحة في الأشياء ، أو الحظر ، على اختلاف الأقوال في ذلك ، أو التمسك بالمصالح ، أو التمسك بالاحتياط .

وعلى تسليم دخول القياس في اجتهاد الرأي ، فليس المراد كل قياس ، بل المراد القياسات التي يسوغ العمل بها ، والرجوع إليها ، كالقياس الذي علته منصوصة ، والقياس الذي قطع فيه بنفي الفارق في الدليل الذي يدل على الأخذ بتلك القياسات المبنية على تلك المسالك التي ليس فيها إلا مجرد الخيالات المختلة ، والشبه الباطلة .

وأيضا فعلى التسليم لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة; لأن الشريعة إذ ذاك لم تكمل ، فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة ، وأما بعد أيام النبوة فقد كمل الشرع; لقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع ، إما بالنص على كل فرد فرد ، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة .

ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله : ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .

واستدلوا أيضا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من القياسات ، كقوله : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه ؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى .

وقوله لرجل سأله ، فقال : أيقضي أحدنا شهوته ، ويؤجر عليها ، فقال : أرأيت لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر ، قال : نعم ، قال : فكذلك إذا وضعها في حلال ، كان له أجر .

[ ص: 593 ] وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر . قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : فمن أين ؟ قال : لعله نزعه عرق ، قال : وهذا لعله نزعه عرق .

وقال لعمر ، وقد قبل امرأته وهو صائم : أرأيت لو تمضمضت بماء .

وقال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .

وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام ، وقد وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - قياسات كثيرة ، حتى صنف الناصح الحنبلي جزءا في أقيسته - صلى الله عليه وآله وسلم - .

يجاب عن ذلك : بأن هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم ، الذي يقول الله [ ص: 594 ] سبحانه فيما جاءنا به عنه إن هو إلا وحي يوحى ويقول في وجوب اتباعه وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وذلك خارج عن محل النزاع ، فإن القياس الذي كلامنا فيه هو قياس من لم يثبت له العصمة ، ولا وجب اتباعه ، ولا كان كلامه وحيا ، بل من جهة نفسه الأمارة ، وبعقله المغلوب بالخطإ ، وقد قدمنا أنه قد وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - .

واستدلوا أيضا بإجماع الصحابة على القياس .

قال ابن عقيل الحنبلي : وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله ، وهو قطعي .

وقال الصفي الهندي : دليل الإجماع هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين .

وقال الرازي في المحصول : مسلك الإجماع هو الذي عول جمهور الأصوليين .

وقال ابن دقيق العيد : عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض ، شرقا وغربا ، قرنا بعد قرن ، عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين .

قال : وهذا من أقوى الأدلة .

ويجاب عنه : بمنع ثبوت هذا الإجماع ، فإن المحتجين بذلك إنما جاءونا بروايات عن أفراد من الصحابة محصورين ، في غاية القلة ، فكيف يكون ذلك إجماعا لجميعهم ، مع تفرقهم في الأقطار ، واختلافهم في كثير من المسائل ، ورد بعضهم على بعض ، وإنكار بعضهم لما قاله البعض ، كما ذلك معروف .

وبيانه أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة على أقوال معروفة وأنكر بعضهم على [ ص: 595 ] بعض ( ما سلكه من القياس في ذلك ، وكذلك اختلفوا في مسألة الحرام على أقوال ، وأنكر بعضهم على بعض ) .

وكذلك اختلفوا في مسألة زوج ، وأم ، وإخوة لأم ، وإخوة لأب وأم ، وأنكر بعضهم على بعض .

وكذلك اختلفوا في مسألة الخلع .

وهكذا وقع الإنكار من جماعة من الصحابة على من عمل بالرأي منهم ، والقياس [ ص: 596 ] إن كان منه فظاهر ، وإن لم يكن منه فقد أنكره منهم من أنكره ، كما في هذه المسائل التي ذكرناها .

ولو سلمنا لكان ذلك الإجماع إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها ، والتي قطع فيها بنفي الفارق ، فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس ، الذي اعتبره كثير من الأصوليين ، أثبتوه بمسالك تنقطع فيها أعناق الإبل ، وتسافر فيها الأذهان ، حتى تبلغ إلى ما ليس بشيء ، وتتغلغل فيها العقول ، حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر ، ولا من الشريعة السمحة السهلة ، في قبيل ولا دبير .

وقد صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : تركتكم على الواضحة ، ليلها كنهارها .

وجاءت نصوص الكتاب العزيز بما قدمنا من إكمال الدين ، وبما يفيد هذا المعنى ، ويصحح دلالته ويؤيد براهينه .

وإذا عرفت ما حررناه ، وتقرر لديك جميع ما قررناه; فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته ، وما قطع فيه بنفي الفارق ، وما كان من باب فحوى الخطاب ، أو لحن الخطاب ، على اصطلاح من يسمي ذلك قياسا ، وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة .

ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا ، وإن كان منصوصا على علته ، أو مقطوعا فيه بنفي الفارق ، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل ، مشمولا به ، مندرجا تحته ، وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه ، ويقرب لديك ما بعدوه; لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظيا ، وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به ، والعمل عليه ، واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي ، لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، وقد قدمنا لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ، ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها .

[ ص: 597 ] وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك : أن النصوص لا تفي بالأحكام ، فإنها متناهية ، والحوادث غير متناهية .

ويجاب عن هذا : بما قدمنا من إخباره - عز وجل - لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها ، وبما أخبرها رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها .

ثم لا يخفى على ذي لب صحيح ، وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ، ومطلقاتهما ، وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ، ويقوم ببيان كل نازلة تنزل ، عرف ذلك من عرفه ، وجهله من جهله .

التالي السابق


الخدمات العلمية