إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسلك السادس

المناسبة

ويعبر عنها بالإخالة وبالمصلحة ، وبالاستدلال ، وبرعاية المقاصد ، ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ، ومحل غموضه ووضوحه .

ومعنى المناسبة : هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة ، مع السلامة عن القوادح ، لا بنص ولا غيره .

والمناسبة في اللغة الملاءمة ، والمناسب الملائم .

قال في المحصول : الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين :

( الأول ) : أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء ، وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة ، وعن الإبقاء بدفع المضرة; لأن ما قصد إبقاؤه فإزالته مضرة ، وإبقاؤه دفع للمضرة .

[ ص: 626 ] ثم هذا التحصيل والإبقاء ، قد يكون معلوما ، وقد يكون مظنونا ، وعلى التقديرين; فإما أن يكون دينيا أو دنيويا .

والمنفعة عبارة عن اللذة ، أو ما يكون طريقا إليها ، والمضرة عبارة عن الألم ، أو ما يكون طريقا إليه ، واللذة قيل في حدها : إنها إدراك الملائم ، والألم : إدراك المنافي .

والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما; لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ، ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما ، وبينهما وبين غيرهما ، وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه .

( الثاني ) : أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات ، فإنه يقال : هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم ، انتهى .

وقد اختلف في تعريفها القائلون بمنع تعليل أفعال الله سبحانه بالأغراض ، والقائلون بتعليلها بها .

فالأولون قالوا : إنها الملائم لأفعال العقلاء في العادات ، أي ما يكون بحيث يقصد العقلاء تحصيله على مجاري العادة بتحصيل مقصود مخصوص .

والآخرون قالوا : إنها ما تجلب للإنسان نفعا ، أو تدفع عنه ضررا .

وقيل : هي ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول . كذا قال الدبوسي .

قيل : وعلى هذا فإثباتها على الخصم متعذر; لأنه ربما يقول : عقلي لا يتلقى هذا بالقبول ، ومن ثم قال الدبوسي : هو حجة للناظر; لأنه لا يكابر نفسه لا للمناظر .

قال الغزالي : والحق أنه يمكن إثباته على الجاحد بتبيين معنى المناسبة على وجه مضبوط ، فإذا أبداه المعلل فلا يلتفت إلى جحده انتهى .

وهذا صحيح ، فإنه لا يلزم المستدل إلا ذلك .

وقال ابن الحاجب : إن المناسب وصف ظاهر منضبط ، يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة ودفع مفسدة ، فإن كان الوصف خفيا ، أو غير منضبط; اعتبر ملازمه ، وهو المظنة; لأن الغيب لا يعرف [ ص: 627 ] الغيب ، كالسفر للمشقة ، والفعل المقتضي عرفا عليه بالعمد في العمدية .

قال الصفي الهندي : وهو ضعيف; لأنه اعتبر في ماهية المناسبة ما هو خارج عنه ، وهو اقتران الحكم بالوصف ، وهو خارج عن ماهية المناسب ، بدليل أنه يقال : المناسبة مع الاقتران دليل العلة ، ولو كان الاقتران داخلا في الماهية لما صح هذا .

وأيضا فهو غير جامع ; لأن التعليل بالظاهرة المنضبطة جائز على ما اختاره قائل هذا الحد ، والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق المناسبة .

وقد احتج إمام الحرمين على إفادتها للعلية بتمسك الصحابة بها ، فإنهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص ، إذا غلب على ظنهم أن يضاهيه لمعنى ، أو يشبهه .

ورد بأنه لم ينقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب ، فلا يبعد التعبد مع نوع من الظن الغالب ، ونحن لا نعلم ذلك النوع .

ثم قال إمام الحرمين : فالأولى الاعتماد على العمومات الدالة على الأمر بالقياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية